للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فانظر إلى هذا الطلب الذهني الملح لشيء أسود شبكي الهيئة يكون محيطا بآخر من أحمر. وقد كان ابن الرومي من أوائل من صنفوا في هذا النوع من التشبيه، وذللوا سبيله لمن بعدهم، من أمثال كشاجم والصنوبري. وقد تنبه ابن رشيق إلى هذه الظاهرة من شعر ابن الرومي، فزعم أنه أشد الشعراء غوصا على المعاني، وأنه أبرع في ذلك من أبي تمام، أستاذ الغوص والإغراب (١)، وصاحب الابتداعات والوساوس، كما يقول الآمدي.

وعندي أن ابن الرومي، على حذقه في زخرفة التشبيه والاستعارة، وبعد غوصه على غرائبهما، لم يكن إلا متبعا لأبي تمام في هذا الباب. وأن مذهبه في الوصف، إنما كان إتماما لمذهب ذلك الشاعر، ووصولا به إلى نهايته. وقد وهم بعض المعاصرين فحسبوا أن ابن الرومي قد كان متقدما على عصره، وأنه كان يدرك من معاني الشعر على وجه الإجمال فوق ما كان يدرك معاصروه. وحقيقة الأمر عندي أن ابن الرومي قد كان من أكثر رجال زمانه تغلغلا في روح زمانه، وتأثرا بذوقه وانحرافاته، وقد كان هو وابن المعتز كلاهما من أصحاب الفسيفساء المعنوية. إلا أن ثانيهما كان من طبقة الملوك والعلية، فهو بذلك أشد بعدا عن فهمنا من صاحبه. (أليس هذا الدهر الذي نحن فيه دهر "البرجوازية والبتروليتاريات"). وقد تنبه ابن الرومي نفسه إلى قوة الشبه بين مذهبه ومذهب ابن المعتر، عندما عرض عليه قول هذا الأخير في صفة الهلال:

وانظر اليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر

فقال، كالمدافع عن نفسه، إن ابن المعتز يصف من ماعونه. ثم أنشد لنفسه في صاحب الرقاق:

ما أنس لا أنس خبازا مررت به ... يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر


(١) راجع العمدة (٢: ٢٢٦ - ٢٣٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>