للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما بين رؤيتها تنساب في يده ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر

ألا بمقدار ما تنداح دائرة ... في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر

وقد أعجب المازني، رحمه الله، في كتابه حصاد الهشيم (١) بهذا المعني، وعده تصويرا للمتحرك. ولم يفطن إلى ما فطن إليه ابن الرومي نفسه، من أن هذا الكلام من سنخ كلام ابن المعتز:

انظر إليه كزورق من فضة

وإنما جاء الفرق بينما من اختلاف بيئته، هذا يصف الفضة والعنبر، وهذا يصف الخباز والرقاق. ولا يخفى أن كلام ابن الرومي إنما هو حذق وبراعة ومهارة ذهنية، وليس داخلا في حيز ما نسميه نحن بالتصوير العاطفي، وإنما يدخل في حيز الزخرفة المعنوية. ونحوه قوله في الأحدب:

قصرت أخادعه وغاب قذاله ... فكأنه مترقب أن يصفعا

وكأنه قد ذاق أول صفعة ... وأحس ثانية لها فتجمعا

ونحن في هذا العصر لا نستطيع أن ندرك من عنصر النكتة "الذهنية" في هذا البيت ما كان يدركه معاصرو ابن الرومي، الذين كانوا يستعملون الصفع كثيرا. وما كان أجهلنا بكنه هذه اللفظية ومدلولها لو نقرأها في الكتب.

هذا، ولا يخفي من هذه الأمثلة التي ذكرناها من ابن الرومي ومن غيره، وضرائبها ونظائرها مما هو كثير مبثوث في كتب الأدب، أنها كانت محاولة للرسم من طريق الكلمات. ولا شك أن رغبة العباسيين في الرسم والتصوير والنحت، التي منعها الدين من أن تسلك سبيلها الطبعي، هي التي ألجأتهم إلى هذه المحاولة، وهي التي اضطرتهم إلى أن يجعلوا من الكلمات ألوانا وطلاءات و"فرشا" يرسمون بها


(١) حصاد الهشيم للمرحوم إبراهيم عبد القادر المازني، (الطبعة الثانية "مصر" ١٧٨ - ١٩٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>