وقد كان في ثورة المعري وشدة جنوحه إلى رغائب الدنيا، دافع قوي يؤهله -مع ما توفر ما عنده من الفصاحة وإجادة النظم- لأن ينطق بلفظ ومعانٍ في عنف ما نطق به المتنبي، إن لا أعنف.
غير أن أبا العلاء قد نشأ حضريا في بيت علم ونعمة وسراوة، ولم يكن كذلك أبو الطيب. الذي نشأ بدويا قحا، أدني إلى الجلافة منه إلى الرقة، وأشبه بعروة بن الورد، منه بالمسلم العباسي، الذي كان يتخير الملبس والمأكل، ويتأنق في شتي أساليب المظهر، ثم إن نشأة أبي العلاء قد كانت بأعقاب ازدهار الدولة الحمدانية في الشام، وكانت بلدة معرة النعمان، ناحية من نواحي حلب اللاحقة بها. ولاريب أن ذلك الازدهار الحمداني، قد ترك وراءه آثارا قوية من الحضارة والرقة في حلب وما حولها من المدن والضواحي. ولا يخدعنا ادعاء المعري لمذهب البداوة. فليس التكلف كالطبع وإنما كان التشبه بالبدوين "موضة" مستحسنة عند ظرفاء الحضر في ذلك الزمان، على ألا يجوز ذلك ناحية القول إلى ناحية الفعل. ومن عجب الأمر أنهم استحسنوا كثيرا من مظاهر البداوة في شعر المتنبي (١)، ظنا منهم أنها (أو مخادعة منهم لأنفسهم بأنها) تقليد للبدو، وتظرف بهذا التقليد نحو قوله:
من الجاذر في زي الأعاريب ... حمر الحلى والمطايا والجلايب
أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا خرجن من الحمام ماثلة ... أوراكهن صقيلات العراقيب
ولا باس من أن نستطرد هنا ونقول: إن هذه الأبيات ليست تقليدا للبداوة،