كما كان يسر العباسيين أن يظنوا، وإنما كانت كلام بدوي تعجبه بعض مظاهر الحضارة أو تشتاق لها نفسه، مع ادعاء للأنفة عنها- وما للمتنبي رحمه الله وللأوراك الصقلية العراقيب، الماثلة للناظرين، إن لم يكن يحس من نفسه بميل إليها؟
هذا، ومن تأمل فرق ما بين أبي العلاء والمتنبي في النشأة، من حيث إن الثاني بدوي، والأول حضري، نشأ في بيت دين متحضر، إدراك جيدا أن رغبة أبي العلاء في النصوع الجاهلي، والإغارة على المعاني كما كانوا يفعلون، وكما استطاع المتنبي أن يفعل ببدواته، لا بد أن تكون محدودة بحدود الرقة الحضرية، والذوق المدني المرهف المتأنق، والرغبة في الصناعة والتكلف. وهذا من أوائل ما نلم به من نواحي التناقض في شخصية ابي العلاء ونفسيته مما كان له أثر بليغ في "تكييف" أسلوبه.
ثم إن أبا العلاء، كان يرغب في السلطة والجاه، شأنه في ذلك شأن من تربب في السلطة والجاه، وحباه القدر فطنة وذكاء وحسا مرهفا، وزاده مع ذلك العلم وسعة الخيال، وقوة النقد، وإدراك أسرار الأمور، وسرعة الفهم لمواضع الخطأ في المجتمع الذي كان يعيش فيه، ولكن رغبة أبي العلاء في الجاه والسلطان هذه كان يمنعها من أن تجد سبيلها الطبعي ما رماه به سوء الجد من العمى، الذي جعل منه رجلا مستطيعا بغيره. وأنى لمستطيع بغيره أن ينال السلطة والجاه متفردا بهما، متقدما بذلك على غيره؟ ثم إن العمي من طبيعته أنه يدخل في نفس الإنسان الشك والتهمة لمن حوله. ولا يقدر من لا تخلو نفسه من هواجس الشك، وظلمات الريب، على أي حال، أن يطلق للسانه العنان بالتعبير الناصع الواضح، مهما توفرت لديه الملكة والرغبة، وهنا أيضًا تناقض، لا يسعنا إلا التنبه إليه- ومحله هذه الرغبة العنيفة في السلطان، وهذا الفقدان المجحف لأداته.
ثم ان أبا العلاء تضافرت عليه مع علة العمى علة أخري، وهي الدمامة. فقد كان مجدورا، ناتئة إحدى عينيه، قبيحا مرآه، ضئيلا هزيلا تقتحمه العين. هكذا نقل