للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا شك أن القارئ قد فطن إلى المجانسة بين "النخل" و"السخل"، وما فيها من غرابة، وإلى إشارة الشاعر هنا إلى قول المرقش يصف الأظعان ويقول:

أم هل شجتك الظعن باكرة ... كأنهن النخل من ملهم

وحسن تخلص المعري، يبدو في احتفاظه بعنصر النفي، الذي كان آخذًا فيه، ومزجه بشيء من الإيجاب- إذ هذا البيت فيه نفي للمعري عن نفسه، أنه يتبع مذهب الشعراء، في تشبيه الظعائن بالنخل، وهذا كلام منساق مع المعاني السابقة التي بينها، من ذكر الطلول والغيوث وزجر الطير. وفيه إيجاب بذكر ما كان عليه من حال التبتل، والإعراض عن النساء، فهو في هذا لا يخالف الشعراء، وإنما يخالف سائر الناس، ويتشبه بالزهاد والنساك. وقد مهد له هذا الإيجاب أن ينتقل إلى وصف حاله عامة، ببيتين أرادهما أن يكونا بمنزلة الخاتمة والشرح لكلامه السابق، وموضعهما حيث وضعا، يشعر بأن المعري ما أراد إلا إلى الكناية عن توقيه وحذره، وانقباضه واعتزاله، بوصفه الدرع والمبالغة في مدحها قال:

مالي حلس الربع كالميت بعد السبع لم آسف ولم أندم

على أناس من يجاورهم ... تعوزه فيهم عشرة المكرم

فهو تلخيص شامل لفلسفته المتشائمة (١) والبيتان معا، كما ترى، متلاحمان، يجمع بينهما التضمين. وفيهما بعد إجمال للموسيقا الهادئة المتعددة الأصوات، التي افتن في عرضها آنفا- تبصر ذلك من خلال الترصيع في قوله "الربع" و"السبع"- والمزاوجة في قوله "لم آسف ولم أندم"، وتكرار الراءات في البيت الأخير.

وأحسب القارئ، بعد، قد جمع من هذه القصيدة، فيما اختصرناه منها، صورة واضحة لما كنا زعمناه من أن المعري كان مطمئن النفس، صافي القريحة في


(١) قولنا فلسفته هنا: لا نعني به أن المعري كان فيلسوفًا مثل "كانت" وأرسطو طاليس وهيجل، كلا، وإنما نستعمل هذه الكلمة نريد مدلولها العام أي أديب مفكر مثقف حكيم.

<<  <  ج: ص:  >  >>