ويختزل البراهين، وهذا مذهب المتنبي، وقد كان جسورًا، يطلب لنهج الواضح، ودفع الشك، والبت وطرح التردد. خذ قوله:
أرى المتشاعرين غروا بذمي ... ومن ذا يحمد الداء العضالا
وازن بين هذا، وكلام أبي تمام الأول. تجد أن المتنبي حذف كثيرًا، واختصر المقدمات اختصارًا، وفعل مثل ذلك في النتائج، وأثبت في ذهنك أمرًا واحدًا هو أنه داء عضال بالنسبة إلى المتشاعرين. وهذا الوسيط المهم بين القضية الأولى والقضية الثانية حذفه اقتدارًا من هو ثقة أنك ستعرفه. ثم لا تنس أن هذا الوسيط المحذوف، هو المقصود من كلام المتنبي، دون القضية الأولى والنتيجة. وهذا منه غاية الحذق، ثم إنه لما أردف البيت السابق بآخر، هو قوله:
ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرا به الماء الزلالا
لم يفعل هذا من أجل البرهان كما فعل أبو تمام في قوله:"فإني رأيت الشمس زيدت محبة"- وإنما فعل ذلك من أدل التأكيد والمبالغة. ألا تراه كأنما أراد أن يقول لكفي البيت الأول:"أنا داء عضال على المتشاعرين، فلذلك يذمونني"؛ ثم أردف هذا بقوله:"وقد أمرضتهم، فهم يجدون حلاوة كلامي مرة". وهذا تأكيد لكونه داء عضالا؟ ولعل هذا الشرح لكلام المتنبي يوضح مواضع الحذف فيه. ولو قد جاء حبيب به لجاء به مشروحًا هكذا. وقد أنصف المقاد القدماء حين شبهوا أبا تمام بالقاضي العدل، الذي يريد أن ينصف، فيضع كل شيء مواضعه، ولا يسلم من تشكك، وحين شبهوا المتنبي بالشجاع الفاتك الذي يهجم على ما أراده ويخطفه.
وهاك مثالا آخر من شعر المتنبي، قوله:
أشد الغم عندي في سرور ... تيقن منه صاحبه انتقالا
فاجعل هذا بإزاء قول أبي تمام إن الظفر لا يكرم حتى يكون الطلب كريمًا،