ووجه الشبه: هو أن الجناس الحرفي تتصيده من جملة الكلام، كالطباق الذي في قول قيس بن ذريح وهدبة. على أن الطباق الواضح الظاهر، لم يكن قليلًا في كلامهم قلة الجناس التام والمتشابه. لا، بل كان كثيرًا يلفت سمع السامع بتواتره في نظمهم كما قد رأيت من الأمثلة السابقة.
أما المتأخرون، فقد كان همهم أن يوازنوا بين لفظة ولفظة، وتركيب وتركيب من التضاد. ومقصودهم الذي إليه يرمون، ومن أجله يتكلفون التكاليف، هو الموازنة اللفظية ليس إلا، وتكون الموازنة المعنوية تابعة لها، وخادمة بين يديها. وقد أعانهم الإغراب في المجاز على سلوك هذا المسلك. مثال ذلك قول أبي تمام، وهو شيخ الصناعة (١):
من كان أحمد مرتعًا أو ذمه ... فالله أحمد ثم أحمد أحمدا
أضحى عدوا للصديق إذ غدا ... في الجود يعذله، صديقًا للعدا
برزت في طلب المعالي واحدًا ... فيها تسير مغمورًا أو منجدا
عجبًا لأنك سالم من وحشة ... في غابة ما زلت فيها مفردا
واستوقف القارئ عند هذا البيت الذي إنما دعا إليه طلب الزخرفة، بذكر الوحشة والانفراد، والمطابقة بين السلامة من الوحشة، مع الانفراد الجالب للوحشة بطبيعته، ألا ترى الشاعر هنا مع تعمده إلى أسلوب الطباق المجمل، كان يفكر في اللفظ أولا وزركشته، ثم في أداء المعنى. ثم انظر إليه حيث يقول:
وأنا الفداء إذا الرماح تشاجرت ... لك والرماح من الرماح لك الفدا
وسلمت إنا لا نزال سوالما ... آمالنا بك ما سلمت من الردى
كم جئت في الهيجا بيوم أبيض ... والحرب قد جاءت بيوم أسودا