وهذا تقسيمٌ واضحٌ، والبيتان إجمال لما تقدم من النعوت والفضائل، على سبيل الرمز والإشارة، كما هي طريق العرب. وليس المعنى أنه كان لا يغمز ساقه بإصبعه، أو أن ثعبان الجوع، وهو الصفر، كان لا يعض على شر سوفه، ولا أنه مهفهف هضيم الكشح، منخرق القميص كفتاة طرفة بن العبد التي وجدها هو ونداماه رفيقة بالجس، بضة المتجرد. أنما كل هذه أوصافٌ مرادٌ بها نعوت للفضائل، ورمزٌ وإشارة إليها. وقد كان الجاهليون أكثر شيء استعمالًا للرموز في شعرهم، لما كان لديهم من تفرغ الذهن، وما يتبعه من طول التأمل، وسنعرض لتفصيل ذلك حين نتحدث عن البيان إن شاء الله.
ثم انتقل الشاعر من هذا الحزن المحض المعبر عنه بالمدح الخطابي للمرثي، إلى الحزن الشخصي؛ وهذا يربط كلامه هنا بأوله، حيث ابتدأ بالسهر والحذر والتوجس.
عشنا بذلك دهرًا، ثم فارقنا، ... كذلك الرمح ذو النصلين ينكسر
وعسى أن يقرأ متنطس هذا البيت، فيزعم أن العرب كانت تستعمل رمحًا ذا نصلين في حروبها، ويقول: قال أعشى باهلة، انظر الكامل طبعة كذا صفحة كذا.
وما أرى إلا أن الشاعر قد أعمل خياله وأراد التمثيل.
ف
عن جزعنا، فقد هدت مصيبتنا، ... وغن صبرنا، فإنا معشر صبر،
إني أشد حزيمي، ثم يدركني ... منك البلاء، ومن آلائك الذكر
قوله: أشد حزيمي: أي أتجلد. وبعد هذا الشاعر في التعزي أولا بتأبين المنتشر، ثم بذكر كيد أعدائه، وخيانة حلفائه، ثم ختم كلامه بأن سبيل الموت غاية كل حي:
لا يأمن الناس ممساه ومصبحه ... من كل أوب، وإن لم يأت، ينتظر،
إما يصبك عدوٌ في مباوأةٍ ... يومًا، فقد كنت تستعلي وتنتصر،