لا يصعب الأمر، إلا ريث يركبه، ... وكل أمرٍ سوى الفحشاء يأتمر،
وهذا من أجود النعت. يقول إنه لا يعد أمرًا صعبًا، إلا بمقدار ما يتهيأ لركوبه واقتحامه، غير أنه لا يركب أمر الفحشاء، فهو وحده الأمر الذي يعده صعيًا. وفي البيت مقابلة خفية بارعة كما ترى:
تكفيه فلذة كبدٍ، إن ألم بها، .... من الشواء، ويكفي شربه الغمر
وهو القدح الصغير:
لا يتأرى لما في القدر، يرقبه ... ولا تراه أمام القوم يقتفر،
فسر المبرد هذا البيت، فقال في "لا يتأرى": أي "لا يتحبس له، ومن ذا سمي الآري، لأنه محبس الدابة". وقال في "يقتفر": أي "لا يسبقهم إلى شيء من الزاد". وكأنه اشتقها من الاقتفار وهو التبع والتقفي. والمعنى على رأي المبرد، أن هذا الرجل عف، لا يتحبس ليأكل ما في القدر، ولا ينتظر وراء القوم، طلبًا للمطعم. وقد وجدت في بعض الكتب، لا أذكر أيها، أن معنى يقتفر "يأكل الخبز قفارًا"، ووجه تفسير البيت أن هذا الرجل لا يسبق إلى الخبز شرها، فيقتفره قبل أن يحضر الإدام، مما كان يصفه الجاحظ وأضرابه. والصواب عندي ما ذكره المبرد، وهو أشبه بمذهب العرب.
لا يغمز الساق من أينٍ ولا نصبٍ ... ولا يعض على شر سوفه الصفر (١)
مهفهفٌ، أهضم الكشحين، منخرقٌ ... عنه القميص، لسير الليل محتقر،
(١) الصفر: ضرب من الثعابيين، كانوا يزعمون أنه يعض على بطن الجائع. والشر سوف: ما يسميه أهل الطب بالحجاب الحاجز، ونسكيه هنا في السودان: الشرشرف، بشينين معجمتين، وفحوى كلامه أن هذا الرجل صبور، ليس شأنه شأن من يزعم أن ثعبانًا يعض على شرسوفه من الجوع.