للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهنا انتقل الشاعر من الهلع والجزع واضطراب النفس، إلى الحزن المحض، ورمز له بهذه الخطابة الراثية التي يذكر فيها محاسن المنتشر، وقد تعمد أن يجمع في ذلك فضائل البداوة كلها وينسبها إليه:

طاوي المصير على العزاء منصلتٌ ... بالقوم، ليلة لا ماء ولا شجر

والتقسيم هنا يوشك أن يكون واضحًا.

لا تنكر البازل الكوماء ضربته ... بالمشرفي إذا اخروط السفر

أي اشتد وطال. وعندئذ يكون المرء أشدٌ ضنًّا بالبازل وغير البازل، لأنه لا يأمن أن تسقط الرواحل رذايا، فيضطر إلى الترجل. هذا، وأظنك لمحت أن هذا البيت يوشك أن يكون خاليًا من الوقف (وأقول يوشك، لأنه سواي ربما اختار أن يقف عند آخر صدره)، ومثله قوله فيما تقدم من أبيات: "تنعى أمرًا الخ". ولا ريب أن تلاحم الأبيات ذوات المواقف، والتي لا موقف فيها، هكذا، بعضها في بعض، مما يزيد في رنة الكلام، ويقوي جرسه، ويظهر تلك الخاصة الغربية التي سميناها بالمقابلة التقسيمية.

وتفزع الشول منه حين تبصره، ... حتى تقطع في أعناقها الجرر،

وهي جمع جرة: أي تغص بما كانت تجتر. من شدة الخوف لما وقع في وهمها أنه سيقتلها، وهذا مثل قول الآخر:

تركت ضأني تود الذئب راعيها ... وأنها لا تراني آخر الأبد

الذئب يطرقها في الدهر واحدةً ... وكل يومٍ تراني مديةٌ بيدي

ورفع الفعل "تقطع" من قولك "حتى تقطع" أجود من نصبه، لأنه لا ينوي معنى كي هنا، ولا الغاية، وإنما التقوية والتأكيد، أي حتى إن الجرر لتكاد تتقطع في أعناقها.

<<  <  ج: ص:  >  >>