ولم يزد فيما رواه من ترصيع المحدثين على البيت الواحد لا يتبعه بقرين، إلا المتنبي، فإنه ذكر له بيتين وعابهما، وإنما فعل ذلك لإكثار المتنبي من هذا الصنف.
وأنشد أبو هلال ثمانية وثلاثين بيتًا، ليس للمحدثين منها إلا بيتان، وللإسلاميين الأوائل ثلاثة فقط، أما قُدامة، فأنشد ثلاثة وثلاثين بيتًا، ليس فيها واحد محدث وفيها بيتان فقط لغير المخضرمين.
وقد نظرت في دواوين الشعراء التي بيدي، فوجدت أن الشاعر كلما كان أدخل في البداوة، أو أقدم في العهد، كان الترصيع وشبه الترصيع، أظهر وأوضح في كلامه. من ذلك شعراء هذيل، وقد رأيت كلام صخر الغي وأبي المُثلم هنا. وأوردنا لك من قبل كلمة أبي المُثلم:(يا صخر إن كنت ذا بز تجمعه). ومن ذلك نساء البدو، وشعر الخنساء كثير فيه هذا الصنف. ومن ذلك شعراء اللصوص، وأحيلك مثلاً على وصف الذئاب، الذي جاء به الشنفري في لاميته، وعلى تائيته المفضلية. وامرؤ القيس وهو شاعر قديم، خالط البداوة، وتنقل بين مياه العرب. كثير التقسيم المسجع، لا تكاد تخلو قصيدة له منه، وقد رأيت استشهادنا بكلامه في مواضعه، وقل كتاب من كُتب البلاغة لا يفتتح به الاستشهاد. أما طبقات النابغة وزهير والأعشي، فهذا النصف قليل في أشعارهم. وقد ذكرنا أن زهيرًا يرد في كلامه التقسيم الواضح بلا تسجيع، وأن هذه ظاهرة قديمة من ظواهر النظم؛ أبت آثارها إلا بقاء في شعره وشعر مقلديه، وأخذها الناس عنهم فيما بعد. وربما قولنا هذا مُناقضًا لما زعمناه في الترصيع، من أنه من أسلوب البداوة والقدم، وأن شعر زهير خال منه. ولكن مثل هذا التناقض (ومن الأفضل أن نسميه شذوذًا) كلا تناقض، وهو من المعالم الهامة، التي قد تُعيننا على فهم طريقة النظم العربي، وكيف تم لها النضج والنماء. ذلك بأنه كثيرًا ما يحدث في تاريخ التطور اللغوي، لأسلوب حديث، أن تكون فيه ظواهر عتيقة السنخ، لا توجد في أسلوب أقدم منه، فالناقد- يمكنه أن يحدس لها مكانًا في