وبعد، فلعل هذا كله يثبت عندك، أن المتنبي قد علق بقلبه شيء كثير من حب الحضارة، ولا يصرفنك عن درك هذه الحقيقة، ما تجده في كثير من شعره الذي يتعرض فيه لذكر محاسن عصره، من نفحة سُخط، ومرارة وزراية، كما في الأبيات البائية، والأبيات القافية؛ فأرجح الاحتمالات عندي أن تلك الزراية كانت موجهة منه إلى نفسه. إذ نظر نظرة استحسان إلى هذه المفاتن الحضرية، ولعله كان يرى أن في مثل هذه النظرة نوعًا من الخيانة للقيم البدوية، التي قد سيطت بلحمه ودمه. وقد صرح باضطراب نفسه بين الميل إلى المقام في ظل الحضر، والميل إلى الشظف وعيش البداوة، في قصيدته النونية المشهورية:
مغاني الشعب طيبًا في المغاني
وذلك قوله في شعب بوان:
يقول بشعب بوان حصاني ... أعن هذا يسار إلى الطعان
أبوكم آدم، سن المعاصي ... وعلمكم مفارقة الجنان
وإنما وقع له هذا التصريح بدخيلة نفسه لما اطمأن شيئًا بفارس، والغالب على مذهبه الكتمان والصبر، وعض الشكيمة، والتحمل على أية حال. وقد كان يجد من هذا التحمل مُتنفسًا في الرمز، يُفصح به عن هذه النيران البدوية، التي كانت متأججة في صدره، فيرمز أحيانًا بهذا العناء الحزين، الذي تجده في أوائل قصائده، وبهذه الغُربة التي يتغنى بها، وبهذه الأسفار التي يصفها، ويدعي القدرة على مقاساتها، والغنى عن الأوطان بها؛ - وما أظن التقسيم، كما استعمله المتنبي، إلا قد كان رمزًَا عروضيًا لفظيًا موسيقيًا، اتخذه ليرمز بدقاته القوية التي تُجاوب أصداء هُذيل، وتناغى امرأ القيس، من خلف غياهب القرون إلى هذه النزعة المتوحشة من قلبه، التي تعطو إلى الحضارة، لتنال من أشربتها الواقفات بلا أوان، ثم تنفر في حياء وهلع إلى مسارح الربد، ومرابض الحفان والعين ومكامن العصم، وسباسب المهرية القود.