هذا من الشعر العزيز! أراد أن يقول: جلسنا مجلسًا كان فيه التفاح والخمر، وكان فيه التقبيل والحديث الناعم. وكان فيه خدها المتألق، وثغرها المترقرق، فلم يتسع له البيت، حتى يقول ذلك مُفصلاً. فجمعه لك كله جمعًا على هذا النسق، وتركك تحدس ما أراد. وعندي أنه أراد ثغرها حين قال "ثغري". وأراد أنه كانت ثم مُدامة حين وصف ثغرها بالحميا.
وقال في هذه القصيدة نفسها:
في بلد تُضرب الحجال به ... على حسان ولسن أشباهًا
فيهن من تقطر السيوف دمًا ... إذا لسان المُحب سماها
تبل خدي كلما ابتسمت ... من مطر برقه ثناياها
ما نفضت في يدي غدائرها ... جعلته في المدام أفواها
وهنا لا يريد أنها تملأ خديه بُصاقًا. كما توهم بعض السخفاء. وإنما حمل هذا الكلام على التذكر. فتذكر بكاءها وهي تبكي، وابتسامها وهي تبتسم، ومناجاته لها، على الكأس، في الخلوة الآنسة، وتلماسه. في رفق غدائر شعرها المضمخة بالطيب، وما تنفضه هذه الغدائر على أنامله من المسك والعرف المُندي، وكيف كان يغمس هذه الأنامل في الكأس، يطيبها بذلك، ثم يضعها في فمه، استمتاعًا بهذا الغرام العنيف- تذكر أبو الطيب كل ذلك، وجمعه جمعًا كما ترى، بحيث لو فسرت الألفاظ على ظاهر تركيبها، لم تحصل على شيء، وإنما سبيلك أن تحاول النفوذ إلى أعماقها، وتنظر إلى جوهر المعنى الذي أراده الشاعر. وقد فسر ابن جنى هذه الأبيات كما فسرناها. ولا شك أنه قد أخذ تفسيره عن المتنبي نفسه (١).