ودخول القصور، وشم الرياحين، ومجالسة المدنيين المتقعرين، ومحاولة الاندماج فيهم- قد لقي كل ذلك بغزيرة البداوة الصحراوية، غريزة الجمل وصبره، واحتماله للأثقال، ونهوضه بها. على أنه، رحمه الله، لم يخل من أن أصابه من المدنية التي أحتمل ثقلها، واحتملت ثقله، شيء شبيه بما يصيب الجمل الثقال، من دبر. فقد علق بقلبه حب كثير مما عرضته عليه حضارة حلب والعراق. ألم ينظر إلى عراقيب الحضريات الصقيلات، وأوراكهن الماثلات، حين قال:
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام ماثلة ... أوراكهن صقيلات العراقيب
ألم ينظر بعين شرهة أو ظامئة، إلى الأغيد في قوله:
وأغيد يهوى نفسه كل عاقل ... عفيف ويهوى جسمه كل فاسق
ألم يصرح بعد أن انحلت عقدته بفارس، أنه خلا بشامية مُحجبة، لعلها خولة أخت سيف الدولة، وأنه غازلها كأرق ما يُغازل حضري عف حضرية عفة، وذلك قوله:
شامية طالما خلوت بها ... تبصر في ناظري مُحياها
فقبلت ناظري تُغالطني ... وإنما قبلت به فاها
أحب حمصًا إلى خُناصرة ... وكل نفس تحب محياها
حيث التقى خدها وتفاح لُبنا ... ن وثغري على حُمياها