للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خبر ينسبه إلى أبي الفرج الببغاء، فقد زعم الببغاء، أنه كان من أثراء المتنبي، وخاصته، وأنه أوصل إلى المتنبي ذات ليلة غلامًا، فلما مضى قطع من الليل، دعا أبو الطيب بسرجه فأوقدت، وبدفاتره فأحضرت، وجعل يقرأ والغلام قاعد لا يريم، حتى ذهب من الليل معظمه، ثم صرف أبو الطيب الغلام، بعد أن أمر بأن يُدفع له ثلاثمائة درهم. واستكثر الببغاء هذا العطاء، وقال للمتنبي إن الغلام رخيص، ولا يستحق ما أمر له به. واعتذر المتنبي عن إسرافه، بأن العطية ينبغي أن تكون على قدر المعطي لا الآخذ. فإن صحت هذه القصة (١) فإن فيها أشياء كثيرة تفسر لنا ما رويناه من هذه الأبيات القافية.

منها، هذه الدعوى الطويلة العريضة، أن الغلام كان عالمًا، يعرف أخبار ما بين عاد وبينه، فهل تخيل المتنبي- وهو يُحلي مجلس درسه بهذا الأغيد، كما يُحلي بعض الأدباء اليوم مجالس درسهم بسماع الموسيقا- أن أبا عبيدة والسكري والشيباني والأصمعي حين كانوا يخبرونه الأخبار، من خلال الأسطار، إنما كانوا ينطقون بلسان الجمال الناطق، على صدغ هذا الغلام المراهق؟

ومنها: ما أدعاه للغلام من شرف الخلق، كأنه يرد بهذا على دعوى الببغاء! الذي نسب الغلام إلى الرخص والدناءة، وأن الخلوة معه لا تساوي ثلاثمائة درهم.

والحق أن المتنبي قد كان بدويًا قحًا، نشأة وغريزة، وتركيبًا، وكل الذي أصابه من الدرس والعلم والتحصيل، إنما كان مُغامرة كبيرة، جعلته يَصلى بنار الحضارة العباسية المدنية، وجعلتها هي تَصلى بناره. ولقد لقي الرجل ما فرضه عليه


(١) مما يدفعنا إلى الشك في هذه القصة، والزعم بأنها من مخترعات الببغاء، أنه كان مبتلي بالغلمان. ثم قد روى له البديعي أخبارًا يستفاد منها القصد إلى عيب المتنبي. على أن كون هذه القصة مخترعة، في حد ذاته لا ينقص من قيمتها لدينا، لأنها إنما تمثل حالاً. وقد كان الببغاء فنانًا ماهرًا. راجع يتيمة الدهر: (١: ٢٣٨، ٢٤٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>