الجمال، المحرم في قانون البداوة والفطرة، وأن تنظر إليه بشره كما كان ينظر خلعاء المحدثين. ولا يخدعنك ما في ظاهر هذا الكلام من الفخر بالعفة، وبالحب الذي يكلف بالنفس دون الجسم، فإنما هو ضرب من معاتبة النفس وتقريعها. وفي طيه من التعقد النفساني أشكال وضروب. وبحسبك أن تنظر إلى قوله:"ويهوى جسمه كل فاسق"- ما الذي دعاه إلى ذكر جسمه؟ ألا تجده كأنما يريد أن يقول لنفسه، مالك والغرام بجسم هذا الغلام، إنما يفعل ذلك الفساق! وأنظر إلى قوله "وصدغاه في خدي غلام مُراهق" ... ولا تظن أنه قد أراد به مجرد الدلالة على صغر السن، فإن موضع التأمل للصدغ والخد بين هنا. ولا تنس أن الغلمان في ذلك الزمان، كانوا يفتنون في زينة أصداغهم وليها وعقصها، حتى سمى الشعراء خصل الشعر التي تتدلى على هذا النحو:"واوات الأصداغ". وأشهد لقد نظر المتنبي نظرة عارمة!
ولا أريد أيها القارئ أن أتهم أبا الطيب بحب المذكر، وعمل قوم لوط، فلست ممن يمتري في صدقه حين يزعم أنه لم يكن يريد ما يريد الفساق، وإنما الذي أمتري فيه هو ما ادعاه من أفلاطونية محضة، وعزوف خالص. وما أرى عفته وعزوفه عن العشق، إلا قد كان ذلك نتيجة شعور منه بالخزي والندم، على أنه قد أحس من الضعف في نفسه ما كان ينعاه على أولئك الحضريين، الذين كان يحتقرهم، ويؤذيه نفاقهم وزيفهم. ومما يؤيد مزعمي هنا، قوله في هذه الأبيات نفسها:
وما الحسن في وجه الفتى شرفًا له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق
فهذا البيت. أقرب لأن يكون نُصحًا منه لنفسه، لا تبريرًا لمذهبه في العشق الأفلاطوني ولا تنس موضع كلمة "الحسن" من هذا البيت، فهي تنضج بألوان من الشعور.
هذا، وفي كتاب "الصبح المنبني، عن حيثية المتنبي" ليوسف البديعي (١)
(١) راجع الخبر في "الصبح المبني، عن حيثية المتنبي»، طبعة دمشق ص ٥٠.