للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولامية تأبط شرا (١):

إن بالشعب الذي دون سلعٍ ... لقتيلا دمه ما يطل


(١) هذه القصيدة تنسب لخلف الأحمر. جاء في شرح الحماسة (تحقيق محمد محيي الدين، طبع مصر ٢ - ٣١٣) في شرح التبريزي: "قال النمري: مما يدل على أنها لخلف الأحمر قوله فيها "جل حتى دق فيه الأجل"، فإن الأعرابي لا يكاد يتغلغل إلى شيء من هذا. قال أبو محمد الأعرابي: هذا موضع المثل: "ليس بعشك فادرجي" ليس كما ذكره، بل الأعرابي قد يتغلغل إلى أدق من هذا لفظًا ومعنى. وليس من هذه الوجهه عرف أن الشعر مصنوع، لكن من الوجه الذي ذكره لنا أبو الندى، قال: مما يدل على أن هذا الشعر مولد، أنه ذكر فيه سلعًا وهو بالمدينة، وأين تأبط شرًا من السلع؟ وإنما قتل في بلاد هذيل، ورمي به في غار .... الخ. أهـ" [سياق هذا الكلام يؤيد نسبة هذه اللامية لابن أخت تأبط شرًا لا تأبط شرا نفسه (×) وعلى كل حال: ليس الشك الأكبر في نسبتها إلى الخال أو ابن الأخت أيهما قالها، وإنما في كونها جاهلية غير منتحلة] قلت إن حجة النمري أقوى عندي من حجة أبي محمد الأعرابي لا من حيث أن العربي لا تغلغل إلى مثل معنى "جل حتى دق فيه الأجل" ولكن من حيث إنه لا يتغلغل إلى مثل هذا اللفظ المنطقي ذي اللف والدوران المعتمدة فيه الصناعة والبديع. ولو فتشت عما في الشطر: "جل حتى دق فيه الأجل" من معنى لم تجده يزيد شيئًا على كلمة امرئ القيس الكندي: "ألا كل شيء سواه جلل" (اللسان ١٣ - ١٣٤ - ١٦). ولكن لفظه مخالف للطريقة الجاهلية وأحسب أن هذا هو ما أراده النمري.
هذا والنمري المذكور في هذا الحديث هو أحد شراح الحماسة، وقد سبق التبريزي بزمان. وأبو محمد الأعرابي هو الحسن بن أحمد الغندجاني (معجم الأدباء ٧ - ٢٦١)، وكان مغرى بتعقب العلماء الأجلة والزراية عليهم وأبو الندى -هذا الذي يروى عنه- شخص مجهول، لا يعول عليه، وقد ذكر ذلك ياقوت في ترجمته ١٧١ - ١٥٩). ولو "كانت رواية ابي محمد الأعرابي عن غير أبي الندى، لربما كان لها وجه. والعجب من أبي زكريا التبريزي كيف لم يضعفها وينبه على وهم سندها. هذا، وعلى التسليم بصحتها، فإنه لا يستبعد أن يوجد سلع في سوى ما حول المدينة من جزيرة العرب، فما أكثر ما تتشابه الأسماء والمواضع. وفي القصيدة بعد من مظان الانتحال أشياء كثيرة هي التي شككت معاصري خلف والطبقات الأولى من العلماء في صحتها. ألا ترى إلى رصف الصفات في هذه اللامية، كان راصفها تعمد بذلك أن يستقصي كل ما يمكن جاهليًا أن يقوله في معرض المدح؟ ثم ألا ترى إلى استعمال تراكيب جاهلية قحة، مما يحصل متفرقًا في قصائد الأوائل، كل ذلك في موضع واحد؟ خذ على سبيل المثال:
يابس الجنبين من غير بؤسٍ ... وندي الكفين شهم مدل
غيث مزن غامرٌ حيث يجدي ... وإذا يسطو فليث أبل
أليس هذا الوصف أشبه بمذاهب الكتاب صدر العهد العباسي؟ هذا، وإنه لمما يدعو إلى التثبت قليلًا في أمر هذه القصيدة، أن أبا تمام قد جاء بها كاملة في الحماسة، وهذا قلما يفعله وقد كان أبو تمام عالمًا رواية ناقدًا. فهل يا ترى استجادها -مع معرفته بانتحالها، لأنه أنس أن مثلها يمكن أن يكون قد قيل بلسان الحال، إن لا بلسان المقال؟ أو يا ترى كان أبو تمام يرجح صحة بعض أبياتها، ويشك في بعضها، ثم آثر إيرادها كاملة، كيلا يفسدها بالتصرف؟ أميل إلى هذا الرأي. ويبدو أن خلفًا وجد من هذه اللامية أبياتًا، فأضاف إليها ما صار به قصيدة طويلة، يحمل "كلها" طابع الانتحال، وإن تبرأ منه بعضها، نحو قوله:
فاسقنيها يا سواج بن عمرو ... إن جسمي بعد خالي لخل
تضحك الضيع لقتلى هذيل ... وترى الذئب لها يستهل
وعتاق الطير تغدو بطانًا ... تتخطاهم فما تستقل
فهذا استبعد أن يكون منتحلًا، إذ في البيتين الأخيرين، كما ترى شبه قوي ببعض ما لا يشك في صحته من شعر تأبط شرًا والشنفري. تأمل قوله: "تضحك الضبع" وذكره للطير والقتلى، ألا يشبه ذلك ما نجده عند هذين الشاعرين من الولوع بذكر الضبع، والتلذذ الغريب بالحديث عن الموت والرمم والأشلاء؟ (راجع مقدمة ترجمة المفضليات لكارلوس ليال ٢ - ٢٠ وحاشيتها).

<<  <  ج: ص:  >  >>