السجع في نظام العربية منها إلى الروي المتلئب؟ ولعمري قد يقع للجاحظ ما هو أدنى إلى شبه الروي منها كالذي في آخر ما استشهدنا له من قوله فيما مضى. ولا أغلو إن زعمت أن أكثر نثر الجاحظ الذي لم ينح فيه منحى التأليف يشبه في وزنه وإيقاعه أصنافًا من الشعر الإنجليزي المقفى والمرسل. ولئن صدق هذا القول على الجاحظ لهو أصدق على كثير من معاصريه ممن كانوا أميل إلى السجع كأبي العيناء مثلاً. ولئن صدق على كتاب القرن الثالث لهو أصدق على كتاب القرن الرابع من أصناف الصاحب والبديع، وعلى من اتبعوا سبيلهم من أصناف الحريري والقاضي الفاضل. وإنما أقول ذلك لأن هؤلاء قد كانوا أحرص على رونق الشكل، وتصنيع الأسجاع والازدواج والتجنيس والتطبيق والتقسيم وما إليه؛ على أنه قل منهم من يقارب الجاحظ في تدفق التيار وانسياب المعنى وإطراد النغم.
وإني ليُخيل إلي أحيانًا أن دقيقي الإحساس، رقيقي الشعور، من كتاب القرن الرابع والذين اتبعوا سبيلهم، قد ادمنوا النظر في فواصل القرآن وآيه، كما أدمن الذين من قبلهم، ثم أثروا أن يستحدثوا أشكالاً من القول الموزون يحذونها على نحو ذلك، ثم يجعلونها مسالك لما كان يختلج في نفوسهم من الشاعرية، ويهجرون إليها صوغ القريض المحكم ما استطاعوا. فنشأت من صنيعهم هذا أفانين الرسائل والمقامات وما يجري مجراها من مصقول السجع والمزدوج. ومما يدلك على أن السجع قد صار في القرن الرابع فما تلاه، مذهبًا مقاربًا لمذاهب الشعر، قول ابن الأثير في نعته: «اعلم أن الأصل في السجع إنما هو الاعتدال في مقاطع الكلام. والاعتدال مطلوب في جميع الأشياء، والنفس تميل إليه بالطبع. ومع هذا فليس الوقوف في السجع عند الاعتدال فقط، ولا عند تواطؤ الفواصل على حرف واحد. إذ لو كان ذلك هو المراد من السجع لكان كل أديب من الأدباء سجاعًا. وما من أحد منهم ولو شدا شيئًا يسيرًا من الأدب إلا ويمكنه أن يؤلف ألفاظًا مسجوعة ويأتي بها في كلام. بل