الإقبال. وافتنوا في صوغها أشد افتنان. وجعلوا شعرها ذروة تجتمع عندها غايات ما يستطيعونه من الملكة والإتقان والإيداع.
وقد بنوا شعرهم حين أحكموه على عناصر أربعة من النغم. أولها الموازنة وثانيها السجع. وثالثها التجنيس. ورابعها الوزن المقفى. والعناصر الثلاثة الأوليات قد سبق الحديث عنها. إذ هي مادة «ما قبل الشعر»، حين كان شعرًا، ومنها نشأ إيقاع النثر الذي ذكرناه آنفًا واستشهدنا به. كما قد حيزت بحذافيرها إلى صناعة الشعر من بعد فصارت من متممات جرسه ورنينه. وقد فصلنا الحديث عنها بعض التفصيل في الجزء الثاني من كتابنا هذا.
والعنصر الرابع هو الفاصل بين الشعر و «ما قبل الشعر». وهو الذي يجعلنا نقول عن الأمثال وعن الخطب وعن نثر الجاحظ وعن سجع البديع وعن زخارف القاضي الفاضل أنهن جميعًا لسن بشعر وهو الذي يجعلنا ننظر في كل ما انتظمه الوزن الخليلي والقافية الخليلية فنقول إنه داخل في مدلول شكل الشعر، وإن كان عسى أن يخرج بعضه من هذا المدلول حين يُعرض على مقاييس الجودة والتأثير، كأراجيز الفقه والعلوم مثلاً وكرموز الشاطبية ولامية الأفعال.
وحقيقة هذا العنصر -أي عنصر الوزن المقفى- أنه نسب موسيقة محضة، تؤلف معًا، ليكون منها قالب موسيقى محض. ومن ههنا كانت طبيعة إيقاعه تختلف عن طبيعة الإيقاع الذي في سائر أصناف «ما قبل الشعر». الإيقاع في هذه الأصناف يدور على جرس اللفظ، وألوان المخارج، وموازنات العبارات. ولكن الإيقاع في القالب الموسيقى الذي ينشأ عن الوزن المقفى، يدور على تناسب ضربات، لها أبعاد زمانية، أشبه شيء بالضربات التي تصحب التأليف الموسيقى المعروف. ولقد يهم بعض من يتعرض لدرس الأعاريض العربية، فيحسب أنها مجرد مقاطع طوال وقصار، وليس الأمر كذلك. نعم، قد نقول:«فعولن مفاعلين» , مقطع قصير فمقطعان طويلان، ثم مقطع قصير فثلاثة طوال. ولكن مثل هذا القول ليس في حقيقته إلا وصفًا تقريبيًا يجاء به في معرض التعليم من أجل التيسير