وقد اختلف في سببها، ولكن يقال في الجملة: إن اليهود كانت تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إن النسخ شيء باطل، فليس معقولاً أن تأتي فتنسخ شريعة موسى وشريعة عيسى، وتقول: أنا أتيت بشريعة جديدة.
وقالوا: إنك تقول: إن الله جل وعلا حرم علينا أشياء؛ لأن الله قال في القرآن {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا}[النساء:١٦٠]، وقال تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}[الأنعام:١٤٦].
فقالوا لنبينا صلى الله عليه وسلم: قولك هذا كذب! فهذه الأشياء محرمة علينا منذ زمن إسرائيل، بل هي محرمة منذ نوح وإبراهيم هذا زعم اليهود، فقال الله جل وعلا القول الفصل:{قُلْ صَدَقَ اللَّهُ}[آل عمران:٩٥]، فالله يقول لهم: إن الطعام كله كان مباحاً طيباً ليعقوب إلا شيئاً يسيراً منه لم يحرمه الله، بل حرمه يعقوب على نفسه.
ولم يذكر الله عله تحريمه له، ولكن ورد في السنن وفي الآثار أن يعقوب عليه السلام اشتكى عرق النسا -مرض معروف-، فلما اشتكى عرق النسا نذر إن شفاه الله من عرق النسا أن يحرم على نفسه أحب شيء إليه، فكان يحب لحوم الإبل وألبانها، فلما شفاه الله حرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها.
فتحريم يعقوب على نفسه لحوم الإبل وألبانها كان باجتهاد منه، ولم يحرم الله على إسرائيل ولا من بعدهم شيئاً من الطعام، وإنما حرم على قوم موسى لما بغوا ما ذكره الله جل وعلا لنبيه.
فالله تعالى يقول:{كُلُّ}[آل عمران:٩٣] وهي من ألفاظ العموم في القرآن {كُلُّ الطَّعَامِ}[آل عمران:٩٣] أي: كل مطعوم {كَانَ حِلًّا}[آل عمران:٩٣] أي: حلالاً، وجاء منصوباً، لأنه خبر كان، {كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}[آل عمران:٩٣] فقد كذبتم فيما تزعمون {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ}[آل عمران:٩٣] وهو ألبان الإبل ولحومها لأمر عارض.
قال تعالى:{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا}[آل عمران:٩٣] فإذا أتيتم بالتوراة ستجدون فيها أن الله لم يحرم على إسرائيل شيئاً؛ لأن التوراة أنزلت على موسى، وإنما المحرم فيها ما حرمه الله على بني إسرائيل وفق ما نصه الله جل وعلا في كتابه.
قال الله تعالى:{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[آل عمران:٩٣] وهذا منتهى التحدي، ولم يأتوا بالتوراة، وإنما بهتوا وألجموا، ولم يقبلوا أن يعرضوها على النبي صلى الله عليه وسلم.