وفي هذه الآيات يخبر الله جل وعلا أنه ألهم قلوب الحواريين الذين هم أنصار عيسى ابن مريم، وقذف جل وعلا في قلوبهم محبة عيسى، والإيمان بالله جل وعلا من قبل، ونصرة ذلك النبي الكريم صلوات الله عليه وعلى نبينا، فقال الله جل وعلا:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ}[المائدة:١١١] و (أوحى) في القرآن تأتي على ثلاثة أضرب: فتأتي بمعنى الإرسال، وهو الذي يختص بالنبيين، فالوحي الذي يكون به الإنسان نبياً يسمى إرسالاً، ويأتي على عدة هيئات، منها: أن يكلم الله جل وعلا العبد من وراء حجاب، أو يرسل جبرائيل بذاته، أو أن يقذف شيئاً في قلب ذلك النبي، وهذا النوع هو الذي يميز به النبيون عن غيرهم.
والضرب الثاني: وحي بمعنى الإلهام، قال الله جل وعلا:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}[النحل:٦٨]، وقال الله تبارك وتعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ}[القصص:٧] فوحي الله جل وعلا إلى النحل ووحي الله تبارك وتعالى إلى أم موسى لا يجعل من النحل ولا من أم موسى أنبياء، ولكن المقصود الإلهام الذي ألهمه الله جل وعلا النحل وألهمه الله جل وعلا أم موسى، وهذا هو الذي قصده الله بقوله:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي}[المائدة:١١١] أي: ألهمتهم الإيمان بالله والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم.
الضرب الثالث: الوحي بمعنى الأمر، قال الله جل وعلا:{إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}[الزلزلة:١ - ٥] فقوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}[الزلزلة:٥] أي: بأن الله أمرها.
فينجلي عن هذا أن الوحي في القرآن على ثلاثة أضرب: وحي بمعنى الإرسال، ووحي بمعنى الإلهام، ووحي بمعنى الأمر.
وقول الله جل وعلا:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ}[المائدة:١١١] أي: ألهمت الحواريين أن يؤمنوا بي وبرسولي.
قال الله تعالى:{قَالُوا}[المائدة:١١١] أي: الحواريون {آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}[المائدة:١١١] واختلف في المخاطب بـ (اشهد) هل هو الله أو عيسى؟ وقواعد القرآن لا تنافي أن يراد الاثنان، أي: أشهدوا الله وأشهدوا عيسى على أنهم مسلمون.