[تأملات في قوله تعالى: (إذ يغشى السدرة ما يغشى)]
{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:١٦]، النبي عليه الصلاة والسلام لما عرج به ورأى السدرة رأى أنه يغشاها من آلاء الله ما لا يمكن أن يصفه بشر، ولذلك أبهم ذلك الوصف فقال الله: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:١٦]، قال الله عندها مدحاً لنبيه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:١٧]، فالنبي عليه الصلاة والسلام في رحلة المعراج لم يحد بصره لا ميمنة ولا ميسرة، وإنما كان يري بصره ما أراه الله، وهذا من كمال أدبه صلوات الله وسلامه عليه.
وأنت إذا دخلت بيت أحد كضيف فلا تجلس حيث تريد بل أجلس حيث يريد صاحب البيت، فهذا هو كمال الأدب؛ لأن صاحب البيت أدرى ببيته، وأدرى أين يضعك، فربما تطلب مكاناً تظنه مناسباً وفيه حرج على صاحب البيت، فمن الأدب أنك عندما تأتي عند أحد كضيف أن تنزل حيث أنزلك، وأن تجلس حيث أجلسك فهو أدرى ببيته.
نحن نقوله تعلماً والله جل وعلا علمه النبي صلى الله عليه وسلم فطرة؛ فلما رقي به عليه الصلاة والسلام لم يلتفت ميمنة ولا ميسرة، وأقام بصره حيث أقامه الله، ولذلك أثنى الله عليه بقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:١٧].
ثم أثنى الله على ما رآه نبينا صلى الله عليه وسلم فقال: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:١٨]، وفيه دليل لمن قال: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم ير ربه؛ لأن الثناء على النبي بأنه رأى الله أعظم من الثناء عليه بأنه رأى بعض الآيات.
والإسراء والمعراج لا تفهمه منفكاً وإنما افهمه بالحدث الذي قبله، فقد كانت حاثة الإسراء والمعراج بعد رحلة الطائف، حيث خرج صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فرده أهل الطائف، فرجع إلى مكة فلما رجع إلى مكة منعته قريش من أن يدخلها، فدخلها بجوار المطعم بن عدي، وكان المطعم كافراً ومات على الكفر، وكان للمطعم أبناء فتقلدوا سيوفهم ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في جوار المطعم، وطاف بالبيت في حراسة من أبناء المطعم بعد ذلك، وبعد هذه الحادثة أكرمه الله برحلة الإسراء والمعراج.
والآن نقارن ما بين رحلة الطائف وتوابعها، ورحلة الإسراء والمعراج وتوابعها: في رحلة الطائف ذهب إلى الطائف مشياً على الأقدام، وفي رحلة الإسراء والمعراج ركب صلى الله عليه وسلم البراق يضع حافره حيث ينتهي بصره، وفي رحلة الطائف كان معه زيد بن حارثة أحد مواليه مستضعف رضي الله عنه وأرضاه، وفي رحلة الإسراء والمعراج كان معه جبريل، في رحلة الطائف صده أهل الطائف، وفي رحلة الإسراء استقبله الأنبياء في بيت المقدس، وفي رحلة الطائف وهو راجع رده أهل مكة، وفي رحلة المعراج استقبلته الملائكة في السماء، وفي رحلة الطائف رجع يطوف بالبيت معه حراسة، وفي رحلة المعراج رأى البيت المعمور في أمن وكرامة وعزة من الله، فانظر الفرق بين الحالتين حتى تعلم مكانة نبينا صلى الله عليه وسلم عند ربه.
فلما صبر على الأولى من أجل الله عوضه ربه بالثانية إكراماً له صلوات الله وسلامه عليه، قيل للشافعي رحمه الله: أيهما أفضل رجل يمكن أو رجل يبتلى؟ قال: سبحان الله! لن يمكن حتى يبتلى.
فهو صلى الله عليه وسلم دميت عقباه، وسال الدم على أرض الطائف، ورد وصد، ورضي بذلك كله وقال: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، ونزل من الطائف وهو في الطريق لم ينس حظه من صلاة الليل، فقام يصلي ويتلو القرآن قبل أن يصل إلى مكة، فأكرمه الله بأن جناً يأتون إليه فيسمعون قراءته دون أن يدري.
ولذلك قال الله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن:١]، وقال في الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف:٢٩].
هذا أهم ما يمكن المقارنة به بين رحلة الطائف ورحلة المعراج.
أما رحلة المعراج فالذي يعنينا منها أنه صلى الله عليه وسلم قدم له لبن وخمر، وجاء في بعض الروايات وعسل، فاختار اللبن، فنودي: هديت، واخترت الفطرة، وهديت أمتك.
فاللبن الذي يأخذه الجنين من بطن أمه هو الغذاء الوحيد الذي لا تدخل فيه صنعة يد بني آدم، فليس لبني آدم فضل في اللبن الذي يخرج من ثدي المرأة، ولا الذي يخرج من ضرع الشاه أو ذوات الحليب، فلذلك قيل له صلى الله عليه وسلم: اخترت الفطرة.
ثم عرج به صلى الله عليه وسلم، وقد مر معنا في أكثر من درس ما حظي به صلى الله عليه وسلم من الحفاوة من الأنبياء والمرسلين في أكثر من مناسبة، قال شوقي: يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء تغشى الغيوب من العوالم كلما طويت سماء قلدتك سماء أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء والمصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء صلى عليك الله ما صحب الدجى حاد وحنت بالفلا وجناء واستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنات عدن آلك السمحاء هذه القضية الأولى التي أردت الوقوف عندها في سورة النجم.