[إرشاد لطالب العلم في التأني في الحكم على الأقوال]
وإنما أوردت هذا لتتأنى، حتى إذا سمعت قولاً لأحد العلماء لم تسارع في ذمه حتى تعلم دليله، ولا تستعجل في الحكم؛ إذ يظهر لك العلم من وجه، ويظهر للعالم من وجه آخر، وهذا الذي ينبغي لطالب العلم أن يعرفه.
وفي ذلك يروى أن أبا حنيفة رحمه الله كان له تلاميذ، فكان في كل فترة يعطي أحد التلاميذ إذناً بأن يدرس، فيقول: قم يا فلان فدرس.
وكان له تلميذ من أنجب طلابه، وهو أبو يوسف قاضي القضاة رحمه الله، يوسف فكان أبو يوسف يجلس في الحلقة وهو أفضل ممن يأذن لهم أبو حنيفة، فكان يتعجب من الإمام حين يأذن لغيره أن يدرس ولا يأذن له.
وفي ذات مرة مرض أبو يوسف، فزاره أبو حنيفة في بيته، فوافقت زيارة أبي حنيفة شدة مرض أبي يوسف، فظن أبو حنيفة أن أبا يوسف سيموت، فلما خرج قال للطلاب: لئن مات أبو يوسف ليفقدن العلم أحد رجالاته، والله لقد كنت أعده للناس من بعدي.
فرجع الطلاب يجرون جبلة إلى أبي يوسف فقالوا: الإمام قال وقال وقال، فطاب بذلك أبو يوسف، فجلس أبو حنيفة في الحلقة يوماً فقال: ما فعل الله بـ أبي يوسف؟ فقالوا: لقد برئ.
فقال: أين هو؟ فقالوا: أقام حلقة للعلم.
وذلك لأن الإمام قال: إنني أعده للناس من بعدي.
وجلس يدرس.
وهنا أراد أبو حنيفة أن يؤدبه، ويبين له العلم، فقال أبو حنيفة لأحد الطلاب اذهب إلى أبي يوسف وقل له: إن رجلاً أخذ ثوبه وأعطاه الغسال ليغسله له، فلما رجع ليأخذ الثوب أنكر الغسال أنه أخذ ثوباً، ولم يكن عند صاحب الثوب دليل، فذهب ثم إن الغسال بعد فترة تاب، فأراد أن يرد الثوب لصاحبه، وقد غسّله، فهل له أجرة أم ليس له أجرة؟ وقال للطالب الذي بعثه: إن قال لك: له أجرة فقل له: أخطأت، وإن قال: ليس له أجرة فقل له: أخطأت.
فخرج الرجل وذهب إلى أبي يوسف فجلس في الحلقة، فلما انتهى الدرس بدأ بالأسئلة، فقام الطالب ورفع يده وقال السؤال، فتفكر أبو يوسف رحمه الله قليلاً ثم قال: ليس له أجرة فقال: أخطأت، فتفكر مرة أخرى ثم قال: نعم له أجرة، فقال الطالب: أخطأت، ورجع، فلما خرج فطن أبو يوسف أن الذي بعثه أبو حنيفة، فرجع وجلس في الحلقة مرة ثانية، فبدأ أبو حنيفة بالدرس ثم نظر إليه وقال: يا أبا يوسف! أعادتك إلينا مسألة الغسال؟! ثم قال له: كان ينبغي لك أن تسأل من سألك، فإن كان الغسال سرق الثوب قبل أن يغسله فليس له أجرة؛ لأنه عندما غسله غسله لنفسه، وإن كان غسل الثوب، ثم بعد أن غسله نظر إليه فأعجبه فنوى سرقته فله أجرة؛ لأنه غسله لصاحب الثوب.
ثم قال رحمه الله: شاب لا يحسن مسألة في الإجارة يريد أن يجلس ليعلم المسلمين! والمقصود من هذا أنك لا تدري حجة من قال، ولذلك قال العلماء: كلما كان الإنسان أكثر علماً كان أقل إنكاراً؛ لأنه يعرف أن للمسألة عدة أوجه، فيقل إنكاره على الناس، أما الذي لا يعرف إلا شيئاً واحداً فإنه ينكر كل شيء يراه، وأنا لا أتكلم فيما اتفق العلماء على أنه منكر، بل أتكلم في المسائل التي يخوض فيها الناس.