للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تفسير قوله تعالى: (والذين اتخذوا مسجداً ضراراً)

يقول الرب تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:١٠٧ - ١٠٨]، لقد نزل النبي عليه الصلاة والسلام أول ما نزل المدينة في قباء عند المسجد المؤسس اليوم، وكانت هناك دار لرجل يقال له: كلثوم بن الهدم أحد الخزرج من بني عمرو بن عوف، فنزلها حين دخل المدينة يوم الإثنين، فمكث فيها الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وفي يوم الجمعة قبل الزوال خرج من دار كلثوم بن الهدم حتى وصل إلى مكان المسجد المسمى الآن مسجد الجمعة وصلى فيه، ثم أتى مسجده الموجود الآن فأناخ الراحلة، وكان قد أسس صلى الله عليه وسلم مسجد قباء، ولكنه لم يبنه، وإنما بناه بنو عمرو بن عوف بعد ذلك، وكان لبني عمرو بن عوف جيران من الخزرج نشأوا على الشرك والضلالة، وأكثرهم منافقون، فبنوا مسجداً ضراراً ينازع هذا المسجد؛ لأن هذا المسجد كان يغص بالمصلين، فتجتمع الكلمة وتتآلف القلوب ويتوحد الصف، فبنوا ذلك المسجد وزعموا أنهم بنوه لذي العلة ولليلة المطيرة ولليلة الشاتية، وللحاجة، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إننا بنينا مسجداً ونريد أن تأتي وتصلي فيه كما صليت في مسجد قباء لإخواننا من بني عمرو بن عوف، فاعتذر النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان على شغل، حيث كان على جناحي سفر ذاهباً إلى تبوك، فلما قدم من تبوك أوحى الله جل وعلا إليه بقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} [التوبة:١٠٧]، فانتدب صلى الله عليه وسلم نفراً من الصحابة منهم رجل يقال له: مالك، ومنهم وحشي قاتل حمزة في أربعة ليحرقوا ذلك المسجد ويهدموه، فأتوا المسجد وأخرج مالك من بيته شعلة نار وأحرق المسجد وهدمه، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكون مكان المسجد مكاناً كناسة، أي: توضع فيه القمامات وفضلات الناس نكالاً بهم.

هذا هو مسجد الضرار الذي قال الله فيه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} [التوبة:١٠٧]، والضرار: المنازعة، والذي يدفع إليه هو الحسد، {وَكُفْرًا} [التوبة:١٠٧] لأنهم أرادوا بذلك زيادة النفاق الذي في قلوبهم {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:١٠٧] تدل الآية على أن كل عمل يراد به تفريق الناس أمر محرم شرعاً يؤدي إلى الكفر ولو كان في المسجد، فلا يوجد مصلحة في الدين أعظم من اجتماع كلمة الناس، وكل من حمل لواءً يريد فيه أن يفرق بين المسلمين فإنه يجب نبذه وتركه ولو تستر بألف ستار، فهذا مسجد كان بالإمكان أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يأتوه ويغيروه ويحولوه، ولكنه أسس على باطل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه وإحراقه.

<<  <  ج: ص:  >  >>