[بيان الحواريين أسباب طلبهم المائدة]
فلما استعظم الطلب أدلى الحواريون بحجتهم في بيان سبب أنهم طلبوا هذه المائدة، فقالوا: {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:١١٣]، فذكروا أربعة تعليلات، وقبل أن نعرج على التعليلات التي ذكرها الحواريون نقول: إن الحوار والأخذ والعطاء أمر محمود، ولا يوجد أحد منزه عن الخطأ إلا الأنبياء لما عصمهم الله جل وعلا به، فكون الإنسان يناقش ويأخذ ويعطي ويقبل أن يعترض عليه ويعترض على غيره ويقدم أدلة هذا أمر محمود، فهذا نبي يطلب منه أنصاره مائدة فيقول: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:١١٢] فيردون عليه بذكر السبب قائلين: {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} [المائدة:١١٣] إلى آخر الآية، ففيه أخذ وعطاء.
فالرجل المعصوم الذي يجلس على كرسي ولا يقول إلا الحق لا يوجد، ولا تبحث عنه، فإن العصمة خصها الله جل وعلا بأنبيائه ورسله، وذلك هو المشهور من أقوال العلماء، فقد قال مالك: ما منا إلا راد ومردود عليه، وقال الشافعي رحمه الله تعالى: ما أعلم أحدا حفظ السنة كلها.
فلا يوجد أحد تحارب وتعادي وتوالي وتخاصم من أجل أن قول الحق غير نبينا صلى الله عليه وسلم، أما غيره فإنه -مهما بلغ- يعرض قوله على الكتاب والسنة، فيقبل ما هو حق ويعتذر له عما أخطأ فيه.
فواجب عند اختلاف الفهم إحساننا الظن بأهل العلم فتعتذر له، ولكنك لست ملزماً بقوله، والناس منذ القديم كانوا يأخذون ويعطون ويقبلون، ومن دلالة علو كعب العالم أنه يناقش ويأخذ ويعطي، والمهم أن يكون المراد من المناقشة والأخذ والحوار الوصول إلى الحق، لا المجادلة وإظهار علو الصوت ونبز الأقران والتعالي على الناس، {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:٨٣].
قال تعالى: {قَالُوا} [المائدة:١١٣] أي: الحواريون {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:١١٣].
قولهم: (نَأْكُلَ مِنْهَا) إما لحاجتهم من الفقر الذي كانوا عليه، وإما لكونها منزلة من السماء بإذن من الله وفضل منه، فتكون مباركة طيبة، فيحسن -بلا شك- الأكل منها.
وقولهم: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} [المائدة:١١٣] انتقال إلى مرحلة تسمى عين اليقين؛ لأن الإنسان إذا حدثه أحد من الصادقين بشيء فهو يقين، ولكنه إذا رأى الشيء بعينه انتقل من اليقين إلى عين اليقين.
ومن أظهر الأدلة ما حصل لموسى عليه السلام، فإن الله جل وعلا أخبر موسى بأن قومه عبدوا العجل من بعده، فلما أخبره الله جل وعلا اشتاط غضباً ورجع، فلما رجع إلى قومه رآهم بعينه يعبدون العجل، فكان هذا أعظم في عينه وأوقع أثراً في نفسه، وليس الخبر كالمعاينة، فألقى الألواح؛ لأن الشيء الذي تراه بعينك ليس كما يقال لك.
فالحواريون أرادوا أن يصلوا إلى مرحلة عين اليقين؛ لأنهم يرون المائدة تنزل، فيكون إيمانهم أرفع، وقد قال العلماء: من الفوائد في ذلك: أن الإنسان يجدد إيمانه فيبحث عن وسائل تزيد من إيمانه بين الفينة والفينة، وبين الحين والحين الآخر، وأما ما يزيد به إيمانه فهذا باب واسع.
ثم قال سبحانه عنهم: {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} [المائدة:١١٣] والخطاب لعيسى {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:١١٣] أي: نخبر من بعدنا أن هناك مائدة نزلت، فيصبح في ذلك فوائد دنيوية وفوائد دينية، فالدينية: أن نخبر الناس ونشهد على صدقك، والدنيوية: أننا نأكل ونطعم ونسد جوعنا {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:١١٣].