وقبل أن نشرع في تفسير الست الآيات الأول منها نقدم إجمالاً عن هذه السورة، فنقول: النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه القرآن، وأول ما أنزل:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}[العلق:١]، فلم يؤمر صلى الله عليه وسلم بأن يبلغه للناس، وكان يقرؤه في نفسه، ومن سنة الله في خلقه التدرج وعدم إعطاء الشيء دفعة واحدة، فمن رام شيئاً دفعة واحدة سيسقط عما قريب، ولكن الله جل وعلا له سنن لا تتبدل ولا تتغير، والله لا يعجل لعجلة أحد من خلقه، وهو القائل لعبده:{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}[الأحزاب:٦٢] فلا يعطى الإنسان العطايا مرة واحدة، وإنما يتدرج في ذلك، وعلى هذا بنيت الدنيا، وعلى هذا أجرى الله السنن في الكون.
فهذا النبي الكريم أنزلت عليه سورة العلق ولم يقل له ربه: ادع الناس، ولم يقل له: اتل القرآن على الناس، فلما نزل من ذلك الجبل خائفاً وجلاً، وضمته زوجته خديجة رضي الله عنها، وآوته واطمأنت نفسه أنزل الله جل وعلا عليه سورة المدثر وأمره بأن ينذر عشيرته الأقربين الذين حوله، ولم يؤمر بأكثر من هذا، ثم بعد ذلك أمر بالعرب الذين في مكة وحولها، كما قال الله:{وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}[الأنعام:٩٢].
والقرآن يجب أن يفهم مقروناً بالسنة؛ لأن من أخطاء من وقع في كتاب ربنا جل وعلا أنهم فهموا القرآن مجزوءاً، ولم ينظروا إلى سيرته صلى الله عليه وسلم وسنته ليفهموا القرآن، ومن أراد أن يفهم القرآن من غير السنة، ومن غير سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فلن يفهم شيئاً، وهذا هو الذي وقع فيه الخوارج الأولون لما حاربوا الصحابة؛ لأنهم لم يفهموا مراد الله على ما أراده الله من رسوله صلى الله عليه وسلم، فالله يقول:{وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}[الأنعام:٩٢] ولكن لا يقصد الله من هذا نهاية النذار، وإنما هي التهيئة التدريجية.
ثم أمره الله بأن ينذر العرب قاطبة، ثم لما مكن الله له في الأرض صلوات الله وسلامه عليه، وعقد صلح الحديبية مع أهل مكة واطمأن أخذ صلى الله عليه وسلم في عالمية الدعوة، فراسل الملوك والزعماء آنذاك ليحقق قول الله جل وعلا:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:١]، وقوله جل وعلا:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:١٠٧].
وفي ظل هذا المفهوم يفهم الإنسان المقصود من سورة التوبة.