[بيان معنى قوله تعالى (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم)]
ثم قال الله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}[البقرة:٢٥٣] فالأنبياء لما أتوا بالحق كان من البداهة أن يختصم الناس فيما جاء به الأنبياء، فلما اختصم كل قوم فيما جاء به النبي انقسموا إلى فريقين: مؤمن وكافر، ولكونهم مختلفين كان بينهم الحرب والاقتتال.
فلما جاء الأنبياء والرسل بالعلم من الله وبالوحي وبالتوحيد وبالإسلام أثار ذلك الناس فانقسموا إلى فريقين، فصار بين الفريقين اقتتال لعلة الاختلاف، فسبب القتال وجود الاختلاف.
ثم أخبر الله جل وعلا بأن منهم من آمن ومنهم من كفر، ثم أراد الله أن يبين أن السبب قد يوجد أحياناً ولا يعمل، حتى لا تنصرف أذهان الناس إلى أن السبب قد ينفع ويضر من غير مشيئة الله، فقال الله بعدها:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}[البقرة:٢٥٣] فهذا التكرار فهمه بعضهم على أنه توكيد، وقد نتنازل فنقول: إنه توكيد، ولكنه ليس توكيداً لمجرد التكرار، وإنما المقصود من الآية البيان التالي، وهو أن الله أخبر بأن وجود الاختلاف؟ سبب للقتال، ثم كرر وقال:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا}[البقرة:٢٥٣] ليبين أنه قد يوجد اختلاف ولا يوجد قتال؟ بإذن من الله، بمعنى أن الله يلغي السبب، كالنار، فقد جعلها الله سبباً للإحراق، وقد يدخل إنسان النار ويخرج منها -كما حصل لإبراهيم- دون أن تؤثر فيه؛ لأن الله لم يرد للنار أن تحرق.
وقد حصل ذلك لأبي مسلم الخولاني، وهو تابعي أدرك عمر رضي الله عنه، ولما ظهر الأسود العنسي في اليمن أمر بنار ليحرق أبا مسلم الخولاني، وهو رجل تابعي من أهل اليمن، فأدخله في النار فخرج منها دون أن يصيبه شيء، مع أن الأصل أن النار سبب للإحراق، ولكن الذي جعلها لا تعمل وعطّل سببها هو الرب سبحانه.
ولذلك كرر الله قوله:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}[البقرة:٢٥٣] فنحن -المؤمنين- نأخذ بالأسباب مع علمنا بأن الذي بيده كل شيء هو الله، فنحن -وإن أخذنا بها لأننا مأمورون بأن نسلكها- متفقون على أنها لا تنفع ولا تضر إلا بإذن الله، وقد يسقي الإنسان زرعاً طوال دهره فيحصده غيره، وقد يجمع إنسان المال ليأكله فيموت ويأكله غيره.
وهذا أمر يدركه كل عاقل ليلاً ونهاراً بكرة وعشياً فيما يراه وينظر إليه ومن هذا الباب ما يروى ومن هذا الباب ما يروى من إن هارون الرشيد الخليفة العباسي أوكل الخلافة من بعده لابنه الأمين والمأمون وثالث لهما، وترك المعتصم، وكان له أكثر من أربعة عشر ابناً، وكان المعتصم ثامن أولاده أو تاسعهم، ثم أخذ وثيقة فعلقها على الكعبة وأخذ العهد من العلماء والمسلمين على أن الخلافة من بعده لـ لأمين ثم المأمون ثم الثالث، وحجبها عن المعتصم لأن أمه لم تكن عربية، فشاء الله أن يقتتل الأمين والمأمون، فيقتل المأمون الأمين على يد عبد الله بن طاهر، ويرث المأمون الحكم، ثم يموت الثالث في خلافة أخيه المأمون، ثم يطول عمر المأمون قليلاً فيموت من بين المأمون والمعتصم، ثم في ذروة مجده يموت المأمون، ثم تأتي الخلافة منقادة إلى المعتصم على خلاف ما أراده أبوه، ولم يأت خليفة عباسي بعد المعتصم إلا وهو من نسل المعتصم، فلم يبق لـ لأمين ولا لـ لمأمون ولا لغيرهما أبناء يتولون حكماً، فلا أبناؤهم ولا أحفادهم، فانصبت الولاية كلها محصورة في المعتصم، فأنت تريد وهذا يريد، ويفعل الله ما يريد.
والعاقل لا يعطِّل الأخذ بالأسباب، ولكنه يتوكل على الملك الغلاب، وهذه أمور تجري بقدر الله، فالملك ملكه والأمر أمره، يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد.