والعامة تقول (بينك وبين فلان عيش وملح) في التقاليد الموروثة إنسانياً شيء اسمه حرمة المؤاكلة، وهو معنى قول العامة:(عيش وملح)، فالإنسان إذا جلست معه على طعام واحد يصبح بينكما شيء من الحرمة، وليست الحرمة أن ترى زوجته ويرى زوجتك، ليس المقصود هذا، ولكن المقصود أنك تغير تعاملك معه؛ لأن هذا الأمر يغير فيك، وهذه جبلة إنسانية موجودة عبر التاريخ، وإذا أردنا أن نخوض في هذا إنسانياً نقول: إن موسى عليه الصلاة والسلام كان ذكياً في الصغر، فلما أراد فرعون أن يقتله ائتمر بأمر آسية فقدم له جمراً وتمراً، فعمد موسى إلى التمر يريد أن يأكله، فجاء جبريل ووضع يد موسى على الجمر، حتى يفهم فرعون أن موسى لا يفقه، فلا يعمد إلى قتله، ولأن تحرق يد موسى قليلاً خير من أن يقتل ولما أصابت يد موسى الحرق أصبح غير قادر على أن يأكل في الصبا بنفسه، فلا يستطيع أن يأكل مع فرعون، بل يحتاج إلى وقت حتى يأكل معه، فيضطر إلى أن لا يأكل مع فرعون، فحين يضطر موسى إلى أن لا يأكل مع فرعون لا تكون بينه وبين فرعون حرمة مؤاكلة، فإذا قدر الله بعد ذلك أن يزيل ملك فرعون على يد موسى لم تكن لفرعون يد على موسى حتى في باب حرمة المؤاكلة.
فحين تريد أن يكون بينك وبين امرئ نوع من الحرمة فتقدم له الطعام يصيبك الخوف، لذا قال إبراهيم عليه السلام:{قَوْمٌ مُنكَرُونَ}[الذاريات:٢٥]، بعد أن قال الله:{فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ}[الذاريات:٢٦ - ٢٧]، وقلنا: إن الملائكة لا تأكل ولا تشرب ولا تتناسل ولا تتناكح، ولا توصف بذكورة ولا بأنوثة، بل هم كما نعتهم ربهم وخالقهم:{عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}[الأنبياء:٢٦].