[بيان معنى قوله تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به)]
ثم قال جل شأنه وعظم ذكره: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:١٢٦ - ١٢٨].
هذه الثلاث الآيات مدنية، وجمهور العلماء من المفسرين على أن هذه الآيات نزلت في منصرفه صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وذلك أن الدائرة كانت أول الأمر لأهل الإسلام، ثم كان ما كان من تصرف الرماة رضي الله عنهم وأرضاهم، وعصيانهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فكان تسلط خالد قبل إسلامه على الجبل، ووقع بالمسلمين من القتل ما وقع.
ففي تلك المعركة شفت قريش غليلها من قتل المسلمين، وكان ممن مثل به في أرض المعركة حمزة بن عبد المطلب عم نبينا صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة، حتى وردت أمور لا يحسن قولها في قضية ما فعل به أهل الكفر آنذاك، فقد بقروا بطنه وفعلوا به غير ذلك، فلما انتهت المعركة وانصرف أبو سفيان بالجيش إلى مكة؛ جاء صلى الله عليه وسلم يتفقد شهداء المعركة، وكانوا -رضي الله عنهم وأرضاهم- سبعين، وكانت أشلاؤهم ودماؤهم في أرض المعركة، فوقف صلى الله عليه وسلم يستغفر لهم، ويشهد لهم بالجنة، ويقول: إنهم سيبعثون يوم القيامة بلون الدم وريح المسك، وذكر أموراً عظيمة في فضلهم رضي الله عنهم وأرضاهم، ثم ما زال يمشي صلى الله عليه وسلم في أرض المعركة حتى وقف على حمزة وقد مثل به رضي الله عنه وأرضاه، وكان حبيباً جداً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فهو عمه وأخوه من الرضاعة في نفس الوقت، فوقف عليه صلى الله عليه وسلم وهو مغطى بثوبه الذي مات فيه، ثم وقف صلى الله عليه وسلم يبكي حتى نشج بالبكاء وكاد أن يغشى عليه رغم أن الدم كان ينزف منه، وصلى صلى الله عليه وسلم بأصحابه بعدما انصرف من أحد وهو قاعد، وصلى الصحابة وراءه قعوداً؛ لأنه إنما جعل الإمام ليؤتم به، ولم يطق صلى الله عليه وسلم من الجراح التي به أن يصلي بالناس واقفاً.
وقبل ذلك وقف على حمزة، فقال عليه الصلاة والسلام: (لولا أن تنهاني صفية، ويكون سنة بعدي لتركته هكذا حتى يحشر في حواصل الطير وبطون السباع) ثم أمر بهم فدفنوا من غير أن يغسلوا.
واختلف العلماء في كون النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليهم، وكلا الأمرين وارد، فقد نقل أنه لم يصلّ، ونقل أنه صلى على حمزة سبعين صلاة، فصلى عليه مع كل شهيد، فكأن يضع حمزة ويضع معه شخصاً آخر، ثم يدفن الثاني، وهكذا.
ونقل غير ذلك، والمسألة فيها خلاف طويل بين العلماء ليس هذا موضع بسطها، وإن كان استقر الرأي عند أكثر المتأخرين من المعاصرين أنه لا يصلى على شهيد المعركة، مع الاتفاق على أنه لا يغسل.
والمقصود أنه وقف صلى الله عليه وسلم ثم قال بعد أن أصابه الحنق لما فعلوا بعمه: (لئن ظفرت بهم -أي: قريش- لأمثلن بثلاثين منهم) وفي رواية: بسبعين.
ولما رأى الصحابة ما أصاب نبيهم صلى الله عليه وسلم من الحزن على حمزة والتمثيل به قالوا مثل ما قال نبيهم، فقالوا: لئن أظفرنا الله بهم لنفعلن ولنفعلن، والله جل وعلا يربي العباد، ويدلهم على الأرشد، ولا يوجد في دين الله تنفيذ شيء تريده الجماهير، ولا شيء يثير الحماس أو يثير العاطفة، فلا أجد في الخلق اليوم أشرف من حمزة، وقد مثل به تمثيلاً قبيحاً، ومع ذلك قال الله جل وعلا لنبيه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:١٢٦].
فاختار صلى الله عليه وسلم أن يصبر، وكان ينهى عن المثلة، ونهى أصحابه في سائر حروبه رغم ما ظفر به من أهل الإشراك الذين نكلوا بأصحابه، ونكلوا بـ حمزة أو بغيره، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن أن يمثلوا بأحد من أهل الإشراك؛ لأن الإنسان يقدم دين الله بالصورة التي نزل بها الدين، لا بالصورة التي نريدها نحن للدين، فإن هذا تقديم بين يدي الله وبين يدي رسوله صلى الله عليه وسلم، فلننقل دين الله كما أنزله الله للناس، ولا نخلطه بأمزجتنا وأهوائنا وآرائنا ورغباتنا الشخصية.
والمقصود أنه لأجل هذا نزلت الآية: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:١٢٦ - ١٢٨].