تفسير قوله تعالى: (فلما جن عليه الليل رأى كوكباً)
ثم قال الله جل وعلا بعدها: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:٧٦ - ٧٨].
وقبل أن نشرع في التفسير نقول: لا يمكن أبداً أن يصدق قول من قال من المفسرين: إن إبراهيم قال هذا على الحقيقة، وإنه قاله في طفولته، فهذا أمر لا يمكن أن يعقل؛ لأن الله وصف إبراهيم في كتابه بأنه إمام للحنفاء، وقال عنه: إنه من الموقنين، وقد دل القرآن وتواترت السنة على أن هذا العبد الصالح من أعظم من تيقن بالله، فكيف ينسب إليه الشرك في مرحلة من مراحل عمره؟! والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال هذا كله في موضع المناظرة والمحاجة مع قومه.
قال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:٧٦]، كان كوكب الزهرة، ولم يقصد أن يقول: إنه ربه يقيناً، فيستحيل أن يطبق هذا على إبراهيم، وقد قلنا: إن من القواعد أن تأخذ الأصل، وما جاء من شبهات وعوارض تفندها بثباتك على الأصل، فالتفنيد يكون بأن نقول: إن إبراهيم قال هذا في موضع المناظرة والمحاجة مع قومه.
وقد قلنا: إن طرائق الدعوة تختلف مع الناس، فكان ثلة من قومه لا يعبدون الأصنام، بل يعبدون الكواكب، فيعبدون المشتري، والشمس، والقمر، وفريق منهم يعبدون الأصنام، فتعامل مع كل فريق بطريقة معينة، وأهل الأصنام ذهب إلى أصنامهم وهدمها، وأما الكواكب فليس له عليها حتى يهدمها، فتعامل معهم بالعقل.
قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام:٧٦]، قوله: (جن عليه) بمعنى: غشيه، ولذلك سميت الجنة جنة، وسمي الطفل في بطن أمه جنيناً، وسميت الجن جناً؛ لأنها لا ترى بالأعين، فكل ما غاب واستتر وتغطى يدخل في مادة (جنة).
فالله يقول: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام:٧٦]، والكواكب لا ترى في النهار، فلما رأى كوكباً قال لمن حوله بأسلوب يبين لهم به أنه يريد أن يصل معهم إلى الحق: {هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:٧٦].
وإبراهيم قد رأى الكواكب قبل هذا اليوم، ففي كل يوم يرى الكواكب تأفل، ويرى القمر يأفل، ويرى الشمس تأفل، ولكنه الآن يتعامل مع أناس كانوا على تلك العقول.
يقول تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:٧٦] يقال: إنه الزهرة.
والذي يعنينا أنه كوكب.
قال تعالى: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:٧٦]، يقول لهم: لا يصلح أن يكون رباً وهو يُسَيَّر ويُؤمر ويُحرك من مكان إلى مكان.