[ذكر خبر عبد الله بن أبي السرح]
وهنا تذكر قصة، وهي قصة رجل من الذين أسلموا قديماً اسمه: عبد الله بن سعد بن أبي السرح.
وهذا الرجل أرضعته أم عثمان رضي الله عنه، فهو أخ عثمان من الرضاعة، ولما أسلم كان يحسن الكتابة، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم كاتباً للوحي.
فلما أنزل الله سورة المؤمنون وفيها: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:١٢ - ١٣]، كان الرسول يتلوها وهذا الرجل يكتب، حتى وصل إلى قول الله جل وعلا: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون:١٤]، قال قبل أن يملي عليه الرسول: تبارك الله أحسن الخالقين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هكذا أنزلت علي).
فاغتر بنفسه، فترك كتابة الوحي وقال: إن كان محمد صادقاً فيما يقول فأنا يوحى إلي كما يوحى إليه، وإن كان محمد كاذباً فيما يقول فأنا أقول كما يقول.
وترك الإسلام والتحق بكفار قريش، ولذلك قال الله: {وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} [الأنعام:٩٣]، ولكن كان الله يعلم أزلاً أنه سيتوب، فلم يسمه باسمه الصريح في القرآن، فلما ذهب إلى مكة وحصل فتح مكة في العام الثامن ودخلها النبي صلى الله عليه وسلم بقتل عبد الله بن خطل وعبد الله بن سعد وعكرمة ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة، فأما عبد الله بن خطل فتعلق بأستار الكعبة فلم تنجه وقتل، ورجل آخر يقال له: ابن يسار قتل في السوق.
وأما عكرمة وعبد الله بن سعد ففرا، فذهب عثمان رضي الله عنه إلى أخيه من الرضاعة الذي هو عبد الله وطلب منه أن يدخل معه ليؤمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عثمان رضي الله عنه وأرضاه بأخيه عبد الله على النبي صلى الله عليه وسلم ورسول الله كاره لتوبته؛ لأنه قال ما قال، فطلب عثمان الأمان لـ عبد الله، فسكت صلى الله عليه وسلم طويلاً قبل أن يعطيه الأمان رجاء أن يقوم أحد فيقتله، فلم يقم أحد، ولم يفطن الصحابة لهذا؛ ليمضي قدر الله، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (نعم)، فأعطى عثمان الأمان.
فلما خرج قال عليه الصلاة والسلام: (لقد أطلت الصمت رجاء أن يقوم أحدكم فيقتله)، فقال رجل من الأنصار: هلا أومأت إلي يا رسول الله؟! فقال: (إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة أعين)، صلوات الله وسلامه عليه.
فالله تعالى يقول: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الأنعام:٨٨]، حتى تعلم أن القلوب كلها بيد الله يفعل بها ما يشاء، فهذا الذي ارتد أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، فلما كانت خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه فأصبح أميراً للمؤمنين جعل عبد الله بن سعد والياً على مصر، وهو الذي قاد معركة ذات الصواري، وهي أول معركة حربية في الإسلام، وتم كثير من فتح بلدان إفريقيا على يديه، ثم لما رجع حصلت الفتنة بين علي ومعاوية، فاعتزلها ولم يبايع لـ علي ولا لـ معاوية، وسكن في الرملة المدينة المعروفة في فلسطين، ثم مكث فيها ما شاء الله إلى قبل انتهاء ولاية علي، ثم إنه ذات يوم قال: اللهم اقبضني إليك في صلاة الصبح.
فصلى بالناس صلاة الصبح فقرأ في الأولى الفاتحة والعاديات، وقرأ في الثانية، ثم سلم التسليمة الأولى، ومات قبل أن يسلم التسليمة الثانية.
فهذا كله يدل على أن القلوب بيد الله، وقد يكون الإنسان متلبساً بالمعصية، وهو يحب أن يهتدي، وأنا أرى اليوم شباباً مباركين أسأل الله أن يهدينا وإياهم إلى سواء السبيل.
ولو استطعت أن تدخل إلى قصر أمير لاستحيا الأمير أن يردك بدون شيء، وهو بشر، فكيف وقد دخلنا أجمعين بيت أرحم الراحمين؟! ففي صلاتك هنا وفي دعائك وفي استغفارك ليكن قلبك متعلقاً بالله، فتطلب من الله الهداية، وتطلب من الله غنى النفس، وتطلب من الله الرحمة، وتطلب من الله التوفيق، وتطلب الله أن يرزقك حسن الخاتمة، وتطلب من الله أن يقيك عذاب القبر، وأن يقيك عذاب النار، وتطلب من الله دخول الجنة.
والمقصود أنه كلما آمن الإنسان بأن الهداية والرحمة والفضل والإحسان بيد الله وطلبها بقلبه قبل أن يطلبها بلسانه أعطاه الله جل وعلا إياها، ولكن لا تستعجل، وكن صادقاً مع ربك يصدقك الله تبارك وتعالى.