[تفسير قوله تعالى: (قدم صدق عند ربهم)]
الآية الأولى قوله جل وعلا: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس:٢].
فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والبشارة أمر معروف، لكن العلماء رحمهم اختلفوا في معنى قوله جل وعلا: {قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس:٢] على أقوال وكل يعضدها دليل.
قال بعض العلماء: قَدَمُ الصدْق المقصود به الجنة، يعني: المكان أو المقام أو المدخل، وحجة هؤلاء قول الله جل وعلا: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء:٨٠]، فقالوا: إن المدخل والقدم كلها بمعنى واحد، والمقصود بالآية هنا الجنة.
وهذا يظهر أنه بعيد.
الأمر الثاني قالوا: إن المقصود بها شفيع قبلهم، وهذا الشفيع هو الذي يجعل هؤلاء المؤمنين يتكئون على شيء قبل أن يصلوا إلى ربهم، وهؤلاء قالوا: إن المقصود به شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم.
واحتجوا بما جاء في السنة الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا فرطكم على الحوض) أي: سابقكم إلى الحوض.
فهذه حجة من قال: إن القدم هي الشفيع.
وبعضهم أبعد قليلاً -وهو قول الحسن البصري رحمه الله أبو سعيد الإمام المعروف- قال: إن قدم الصدق هي وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
ووجه الدلالة عنده أن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مصيبة، وصبر المؤمنين على هذه المصيبة هي قدم صدق عند الرب.
فالقول الثاني تفرع عنه قول الحسن البصري.
القول الثالث: أن قدم الصدق هي ما كتب الله في الأزل أن هؤلاء لهم الجنة، وهؤلاء حجتهم آية الأنبياء: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:١٠١]، فقول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:١٠١] دليل على أن الحسنى سبقت لهم من قبل، فقالوا: إن معنى قول ربنا جل وعلا: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} [يونس:٢] أن المقصود بها ما كتبه الله جل وعلا في الأزل من أن لهم الجنة، وهذا قول قوي جداً.
القول الرابع: أن المقصود بقدم الصدق العمل الصالح، وهذا قول مقاتل بن سليمان وهو من كبار المفسرين، واختاره الإمام الطبري رحمه الله.
وحجة هؤلاء: أنه جاء في كلام العرب أنها تكني عن النعمة باليد، وتكني عن الثناء باللسان، وتكني عن السعي بالقدم، فتقول: فلان له علي يد، يعني: له علي نعمة.
وتكني عن الثناء باللسان، جاء في القرآن: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:٨٤] ومعنى لسان صدق هو الثناء الحسن في الآخرين.
ويكنى بالقدم عن السعي، وهذا ثابت عندهم وفيه أشعار لهم كقول حسان: لنا القدم العليا إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع فالمقصود منها أن السعي هو القدم، لكن لما قال: {قَدَمَ صِدْقٍ} [يونس:٢] أصبح السعي بالعمل بالعمل الصالح.
إذاً تحرر من هذا أربعة أقوال وهي: المدخل، ودليلهم: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء:٨٠].
والثاني: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وحجتهم من السنة: (أنا فرطكم على الحوض)، وقلنا: إن الفرض بمعنى السبق.
الثالث -وهو متفرع من الثاني-: وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقلنا: إن هذا هو قول الحسن البصري رحمه الله.
الرابع: ما كتبه الله في القدم، وقلنا: هذا قول قوي جداً، ويؤيده آية الأنبياء: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:١٠١].
والخامس: وهو الذي رجحه الطبري: الأعمال الصالحة.
وهذا الذي يظهر، والله تعالى أعلم.
لكن قلنا: إنك لست ملزماً بقول من يملي عليك، فما تختاره أنت لك فيه إمام سابق.
هذه الآية الأولى.
ثم قال سبحانه وتعالى لما ذكر أهل الجنة قال: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:١٠]، دعواهم هنا بمعنى: دعاؤهم.