[التصوير القرآني لحال الكافرين والمؤمنين يوم المحشر وفي الجنة أو النار]
ثم ذكر الله جل وعلا ما يكون يوم القيامة وذكر تبارك وتعالى عدة نداءات: النداء الأول: نداء أصحاب الجنة أصحاب النار، والنداء الثاني: نداء أصحاب الأعراف أصحاب الجنة، ونداء أصحاب الأعراف لأصحاب النار، ونداء أصحاب النار لأصحاب الجنة، وهذا كله في هذه السورة التي سميت: بسورة الأعراف؛ لأن الله ذكر فيها الأعراف، ولم يرد ذكر أصحاب الأعراف في القرآن إلا في هذه السورة.
قال الله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:٤٤] هذا النداء الأول: ويكون من أصحاب الجنة لأصحاب النار، فأصحاب الجنة يفتخرون على أصحاب النار بأنهم وجدوا ما وعدهم الله من النعيم حقاً، فيسألونهم: هل وجدتم ما وعدكم الله من الجحيم حقاً؟ فيقولون: نعم، فيستمع الفريقان بعد ذلك إلى مؤذن يؤذن ويقول: ((أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)) قال طاوس بن كيسان رحمه الله لـ هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي المعروف: يا أمير المؤمنين! اذكر يوم الأذان، قال: وما يوم الأذان؟ قال: إن الله يقول: ((فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)) فصعق هشام رحمه الله، فقال طاوس بن كيسان: سبحان الله! هذا ذل الصفة، فكيف بذل المعاينة؟! أي: أنك صعقت وأنا أصف لك هول هذا اليوم وصفت فقط، فكيف لو رأيته بعينيك؟! ثم قال تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف:٤٦]، يقول جل وعلا: ((وَبَيْنَهُمَا)) أي: بين الجنة والنار.
((حِجَابٌ)) هذا الحجاب جاء مفسراً في سورة الحديد: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:١٣].
قال الله جل وعلا: ((وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ)) مكان مرتفع.
((رِجَالٌ)) الله أعلم بهم، قيل: إنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، وهذا قول حذيفة، واختاره أكثر المفسرين، وقيل: إنهم أنبياء، وقيل: إنهم ملائكة، ولا يوجد نص نجزم به ونفيء إليه قال: ((وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ)) يعني: يعرفون أهل الجنة ويعرفون أهل النار.
((بِسِيمَاهُمْ)) أي: بعلاماتهم، فإن الله قال عن أهل الجنة: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:٢٤]، وقال عن أهل الكفر: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:١٠٢]، أي: زرق العيون، فيعرف المجرمون بزرقة أعينهم، ويعرف المؤمنون -جعلني الله وإياكم منهم- بما عليهم من نضرة النعيم، وهؤلاء أصحاب الأعراف عندما يقفون عليها يكون معهم نور، هذا النور يجعلهم يطمعون في دخول الجنة، فيقفون حكماً بين الفريقين، قال الله: ((وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ))، المنادي: أصحاب الأعراف، والمنادى: أصحاب الجنة ((أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ)) ثم ينقطع الكلام: ((لَمْ يَدْخُلُوهَا)) والمعنى: أن أصحاب الأعراف لم يدخلوها في أظهر الأقوال.
((وَهُمْ يَطْمَعُونَ)) أي: ويطمعون في دخولها، وهذا الطمع وهذه الرغبة في دخولها حث عليها أنهم ما زالوا يملكون النور ولم ينقطع.
ثم بعد أن يرون أهل الجنة تصرف أبصارهم من غير إرادة منهم إلى أهل النار، قال الله: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:٤٧]، إذا رأوا أهل النار وما هم فيه من عظيم الجحيم والنكال والحميم تعوذوا بالله واستجاروا به: ((قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)).
ثم قال الله جل وعلا: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف:٤٨] أي: رجالاً كانوا في الدنيا على الكفر يصدون عن سبيل الله.
((قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ)).
{أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف:٤٩] ((أَهَؤُلاءِ)) أي: الضعفاء الفقراء المساكين.
((الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ)) كنتم تقسمون في الدنيا أنهم لن ينالوا رحمة ولا مغفرة! قال تعالى: ((ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ)).