[أنواع الوحي]
الوحي من الله يأتي على صور، فالوحي للأنبياء غير الوحي للصالحين، والوحي للصالحين غير الوحي للمخلوقات، فهذه الثلاثة كلها جاءت في القرآن، والوحي للمخلوقات كما في قوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل:٦٨].
والوحي للصالحين غير الأنبياء كما في: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} [القصص:٧].
والوحي للأنبياء كثير وهذه منها: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} [يونس:٨٧]، ومصر هو البلد المعروف، لكنها ليست القاهرة قطعاً؛ لأن القاهرة أسست بعد ذلك في عهد دولة بني عبيد، وإنما كانت أحداث موسى لما دخل المدينة على حين غفلة من أهلها، وهي مدينة عين شمس وليست القاهرة، فالذي يعنينا هو كلمة مصر، وهي كلمة مؤنثة وعلم، والمؤنث العلم يمتنع من الصرف إلا إذا كان ساكن الوسط فإنه يجوز صرفه، كنوح وهند ومصر، ولذلك جاءت كلمة مصر في القرآن مرة موقوف بالراء، ومرة منونة، أي: مرة مصروفة ومرة غير مصروفة؛ لأنها ساكنة الوسط يجوز فيها الصرف ويجوز فيها عدمه؛ لأنها علم، ثلاثي ساكن الوسط ومؤنث.
يقول الله لنبيه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا} [يونس:٨٧] أي: اتخذا، {لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} [يونس:٨٧].
وقال الله: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:٨٧]، واختلف العلماء في معنى قوله تعالى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:٨٧] فذهب الإمام الطبري رحمه الله -وهو شيخ المفسرين نبدأ به- وجمهور العلماء من المفسرين إلى أن المعنى: اتخذوا بيوتكم مساجد، أي: صلوا في بيوتكم، وهو عندهم أي: عند هؤلاء العلماء رحمهم الله: أن بني إسرائيل كانوا يصلون في الكنائس والبيع، فشد عليهم فرعون فأوحى الله إليهم أن انقلوا الصلاة إلى البيوت.
هذا ما قاله جمهور المفسرين.
وقال بعضهم -ويحكى هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما-: إنها (واجعلوا بيوتكم قبلة) أي: جهة الكعبة، أي جهة اجعلوها جهة الكعبة.
ونحن نقول والله أعلم: إن المعطيات التاريخية والقرآنية لا تساعد على أي من القولين، أما الأول فإننا نقول: لا يعقل أن فرعون يسمح بمدة من الزمن لبني إسرائيل أن يصلوا في المساجد والبيع ظاهرين، فالذي ذكره الله في القرآن من سوم فرعون لبني إسرائيل بالعذاب يتنافى عقلياً مع القول إنه يمكن أن يكون بنو إسرائيل قد اتخذوا مساجد ظاهرة علانية كالبيع والكنائس يصلون فيها، إلا إذا وجد دليل صريح من القرآن أن هذا موجود قلنا به، فإذا جاء سيل الله بطل سيل معقل، لكن لا يوجد دليل صريح من القرآن أنهم كانوا يصلون في مساجد ظاهرة، وإنما هذا فهم للآية، ولابد أن تفرق بين كلام الله وبين فهم العلماء لكلام الله، فالمقدس هو كلام الله، وأما فهم العلماء فليس بمقدس، فالذي لا يدخله التبديل ولا التحريف ولا التكذيب هو النص، وأما فهم العلماء للنص فإنه يدخله الخطأ، فأي إنسان قابل قوله للصواب وللخطأ، هذا هو رد القول الأول، وأما رد القول الثاني فنقول: إنه لو قلنا كما قالوا إن: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:٨٧] أي: متجهة إلى الكعبة، فهذا يعني: أن اليهود كانوا يتجهون إلى الكعبة؛ لأن الكعبة قبلتهم، وهذا ينافي ما ثبت في السيرة الصحيحة من أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكة يصلي إلى بيت المقدس، ومكث ستة عشر شهراً في المدينة يصلي إلى بيت المقدس، فلا يعقل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس وهو يعلم أن الكعبة أصلاً متخذة قبلة من قبل اليهود من قبل، فهذا يتنافى مع القرآن، والله يقول: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:١٤٤].
ثم ذكر أهل الكتاب فقال: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة:١٤٥]، وقال: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} [البقرة:١٤٥]، وقال: {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} [البقرة:١٤٥] أي: منذ أن كانوا كان لليهود قبلة، وللنصارى قبلة، وللمسلمين قبلة.
هذا هو الرد على الثاني.
وسبق أن قلنا: عندما ترد الأقوال لابد أن تأتي ببديل، فلا يصح أن تقول: هذه آية ليس لها معنى، ونقول كما قال بعض العلماء من قبل قالوا: وهذا أرجح الأقوال عندنا، وإن كان ضعيفاً في كتب التفسير، نقول: إن معنى قبلة أي: يقابل بعضها بعضاً، أي: مميزة بالمعنى العامي، حتى إذا جاء النفير أن يخرجوا من أرض مصر فإن البعض سيميز بيت الآخر، فيسهل أن ينادي بعضهم بعضاً، فيكون معنى قول الله جل وعلا: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:٨٧] أي: متقابلة في مكان واحد، متجاورة لكم، وهو مصطلح يعرف فيها بعضكم بيوت بعض، هذا الذي ندين الله أنه نختاره من أقوال المفسرين، وإذا قلنا: نختاره فلسنا أول من قاله، فهذا كلام المفسرين في كتب التفسير، ونحن نرجحه؛ لأن معطياته العلمية أقوى.
ومما يدل على صحة هذا القول: أن الله قال بعدها: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [يونس:٨٧]، فمعناه: أنه لم يكن يتكلم عن الصلاة من قبل، ففهموه أنها الصلاة في المساجد والبيوت، {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:٨٧]، وهذه الأظهر أنها خاصة بقوم بني إسرائيل أنه سيأتيهم البشارة والنجاة.
وأنت كطالب علم لست ملزماً بما يقوله الشيخ، فنحن نتكلم من باب الأمانة العلمية، وأما أنت فلك قدراتك وإمكانياتك فتختار من أقوال العلماء ما تراه صواباً.