قال الله جل وعلا:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}[النجم:١٣]، فالرائي هو الرسول صلى الله عليه وسلم، والمرئي جبريل، {نَزْلَةً أُخْرَى}[النجم:١٣] أي: مرة أخرى {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}[النجم:١٤ - ١٥]، إذاً: فالرؤية الثانية كانت في السماء ليلة المعراج، وهذا ظاهر في قول الله تعالى:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}[النجم:١٣] وما بعدها، وأما ما قبل {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}[النجم:١٣] فيتحدث عن أيام الوحي الأولى التي في مكة، وبهذا يستقيم الخطاب ويتم المعنى.
وهذا القول يؤيده ما ثبت عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وعائشة حبيبة رسولنا صلى الله عليه وسلم هي من أعلم الناس بالسنة؛ لأنها كانت قريبة من النبي صلى الله عليه وسلم، فتستطيع أن تسأله متى شاءت، وقد جاءها رجل يقال له مسروق وهو أحد التابعين الصالحين، فجلس مسروق يوماً عند كعب الأحبار فقال كعب الأحبار في المجلس: إن الله خص إبراهيم بالخلة، وقسم الرؤية والتكليم ما بين موسى ومحمد، فكلم موسى مرتين ورآه محمد صلى الله عليه وسلم مرتين، فخرج مسروق من عنده وذهب إلى عائشة وقال لها: يا أم المؤمنين إن كعباً يقول: كذا وكذا، فكانت متكئة فعدلت من جلستها غاضبة، وقالت: لقد قف شعر رأسي مما قلت -أي: وقف-، من حدثك بهذا فقد كذب، فقال: لا تعجلي علي يا أم المؤمنين! ألم يقل الله: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ}[التكوير:٢٣]؟ ألم يقل الله:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}[النجم:١٣]؟ فقالت رضي الله عنها وأرضاها -وهي عندنا صادقة-: أنا أول من سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقال لي:(إنما هو جبريل رأيته مرتين على هيئته التي خلقه الله تعالى عليها) أي: واحدة في أيام الوحي الأولى، وواحدة في رحلة المعراج.
ثم قالت رضي الله عنها وأرضاها: من حدثك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب، قال الله جل وعلا:{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:١٠٣]، ومن حدثك أن أحداً يعلم ما في غد فقد كذب، فقد قال الله:{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}[لقمان:٣٤]، ومن حدثك أن محمداً كتم شيئاً من الرسالة فقد كذب، ثم تلت:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}[المائدة:٦٧].
لكن نقف هنا وقفة مهمة: هذا القول الذي قالته عائشة رضي الله عنها: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، قد نقل عن بعض الصحابة رضي الله عنهم كـ أبي ذر وغيره أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه، لكن اختلفوا هل رآه بقلبه أو رآه بعينه على قولين، وهذا مذهب ابن عباس ومن تبعه من الصحابة.