[تأملات في قول الله تعالى: (ويسألونك عن الروح قل الروح)]
قال جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:٨٥].
الروح وردت في القرآن بمعنى القوة، ووردت بمعنى الوحي، {رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:٥٢].
ووردت في القرآن اسماً لجبريل، ووردت صفة لعيسى بن مريم أو اسماً له.
ووردت في هذه الآية: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء:٨٥]، واختلف العلماء في معناها، لكن أظهر الأقوال: أنها الروح المتصلة بالبدن، لكن الله لم يذكر في كتابه قضية الروح بمعنى: أنها متصلة بالبدن، إنما يسميها: نفساً، قال تعالى: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:٢]، {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:٥٣]، {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر:٢٧]، فلم يقل في القرآن (روح) للنفس داخل الجسد، ولهذا نقول: إذا خرجت من الجسد تسمى روحاً، والنبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: مر على ملأ من يهود فقال بعضهم لبعض: سلوه، قالوا: يا أبا القاسم ما الروح؟ فاتكأ صلى الله عليه وسلم على عسيب نخل ومعه عبد الله بن مسعود، فأنزل الله جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:٨٥].
فالله جل وعلا يقول: إن الروح من أمره، ويقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:٨٥]، بمعنى ليس من السهل أن نتكلم عنها.
لكن نذكر فوائد: العلماء يقولون: إن الروح لها في البدن خمس اتصالات: تعلق حال كونه جنيناً، وتعلق حين خروجه، وتعلق حين منامه، وتعلق في البرزخ، وتعلق بعد البعث والنشور.
فيكون الاتصال اتصالاً كلياً، أما الاتصال الموجود حالياً ففيه شيء من الانفكاك، بدليل أن الإنسان ينام وترتفع روحه؛ هذه فائدة.
الفائدة الثانية: ما يجري من الأحكام على الأجساد لا يجري على الأرواح، فمثلاً: الجسد بطيء الحركة، ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو الصادق المصدوق: (إنه صلى بالنبيين إماماً في المسجد الأقصى)، ثم هؤلاء النبيون بعضهم صلى وراءه ثم لقيه في السموات، فقد رأى صلى الله عليه وسلم أرواحهم؛ لأن أجسادهم موجودة في الأرض لم تبعث، ومع ذلك فالأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، فروح نبينا صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين لكن جسده في حجرة عائشة في مدفنه إلى اليوم.
فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أرواحهم، ولهذا يقول العلماء: إن تنقل الأرواح لا يجري عليه نفس الحكم الذي يجري على تنقل الأجساد.
أما كيف تتنقل فالله أعلم، قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:٣٦]؛ لأن هذا أمر لم نحط به علماً ولم يخبرنا الله جل وعلا به.
إن العلماء يقولون: إن أرواح الموتى تتلاقى، وقد دلت على هذا آثار ورؤىً للصالحين تكاد تكون متواترة لا تكذب.
كما أن أرواح الموتى وأجسادهم تنتفع بدعاء الناس، والمؤمن يعلم أن من أعظم ما يعين في الدنيا والآخرة دعاء الله، فلا يحتقرن أحد أن يدعو الله لنفسه أو لغيره، فإن الإنسان لا يدري أي الدعاء أسمع، فكم من مكروه حميت منه بدعائك أو بدعاء والدتك أو برجل يحبك.
ذكر ابن القيم وغيره: أنه كان رجل صالح بينه وبين المسجد مقبرة في الطريق، فإذا غدا إلى المسجد أو راح يسلم على أهل المقبرة ويقول: اللهم آنس وحشتهم وارحم غربتهم، ويمضي، فذات يوم نسي أن يدعو لهم، فلما رجع إلى بيته ونام رأى في المنام رجالاً في ثياب بيض يسلمون عليه قال: من أنتم يرحمكم الله؟ قالوا: نحن الموتى الذين في المقبرة التي بجوارك كان الله جل وعلا ينفعنا بدعائك ويخفف عنا فلما نسيتنا اليوم لم ننتفع بشيء.
والمقصود: أن الميت لا ينفع غيره وإنما هو الذي ينتفع، فهو ميت انقطع أجله، ولا يملك لنفسه ولا لغيره حولاً ولا طولاً، لكن قد ينتفع الميت وغير الميت بدعاء المؤمنين، ولو لم يكن للدعاء فائدة ونفع لما قال الله عن الصالحين: إنهم يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:١٠].
هذا بعض ما يتعلق بعالم الأرواح، والعلم عند الرب تبارك وتعالى.