ويتحصل من هذا فقهياً ما يلي: أن الأيمان ثلاث: يمين لغو تجري على ألسنة الناس لا يتعمدونها ولا يقصدونها، فهذه قال الله جل وعلا عنها:{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}[البقرة:٢٢٥]، يقول الرجل: بلى والله، كلا والله، اجلس والله، فهذه تجري على اللسان دون أن يتعمدها العبد، فهذه سماها الله لغواً، وأخبر جل وعلا أنه لا يؤاخذ عليها.
اليمين الثانية: تسمى اليمين المنعقدة، وهي التي قال الله جل وعلا عنها:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}[البقرة:٢٢٥]، وهذه تكون في الأمور المستقبلية، بحيث تقسم على أن تفعل أو لا تفعل، أو تترك أو لا تترك، فهذه إن وقعت على خلاف ما قلت يلزم منها كفارة اليمين، وكفارة اليمين واحدة من ثلاث على التخيير: تحرير رقبة، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، فإن أعتق رقبة أو أطعم عشرة مساكين أو كسا إنساناً ما يكفيه لأن تقام بلباسه الصلاة فقد كفر يمينه، وهذه الثلاث على التخيير، فإن لم يستطع أن يحرر رقبة، ولم يستطع أن يطعم عشرة مساكين، ولم يستطع أن يكسوهم ينتقل في حالة العجز عن هذه الثلاثة بالتخيير إلى الصيام، والمشهور عند العامة أن الصيام مواز لهذه الثلاث، وهذا خطأ، فإن هذه الثلاث على التخيير، قال الله جل وعلا:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ}[المائدة:٨٩] أي: واحداً من هذه الثلاثة {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ}[المائدة:٨٩]، فلا ينتقل إلى الصيام إلا إذا عجز عن واحدة من هذه الثلاث.
اليمين الثالثة: اليمين التي يحلفها الإنسان على شيء قد مضى، فيحلف على شيء لم يكن على أنه كان، وعلى شيء قد كان على أنه لم يكن، وهذه تسمى يميناً غموساً؛ لأنها من كبائر الذنوب، ولم يجعل الله جل وعلا لها كفارة، فتسمى يميناً غموساً ويميناً فاجرة، ويلزم منها التوبة النصوح والتخلص من المظالم والأوبة إلى الله جل وعلا، قال صلى الله عليه وسلم -كما عند الستة من حديث عبد الله بن مسعود -: (من حلف على يمين فاجرة وهو كاذب ليقتطع مال امرئ مسلم لقي الله جل وعلا وهو عليه غضبان)، عياذاً بالله، وكفى بالمرء إثماً أن يلقى الله جل وعلا وهو عليه غضبان.
وبالاستقراء -أي: بالنظر في أحوال الناس- عبر التاريخ علم أن كل من يحلف على يمين كاذبة يعاقبه الله جل وعلا قبل أن يموت، خاصةً إذا كان في قسمه وأيمانه مضرة على إنسان مسلم، كشهادة الزور التي تودي بأخيه المسلم وتضره به في الدنيا، فهذه اليمين تبقى ملتحقة به وينتقم الله جل وعلا منه -كما عليه دل الاستقراء- قبل أن يموت.
فـ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان أحد العشرة المبشرين، فبعثه عمر رضي الله عنه أميراً على الكوفة، فمكث فيها ما شاء الله ثم جاء وفد من الكوفة فسألهم عمر عن سعد، فكأن بعضهم ألمح على أنه لا يريده، فبعث عمر رضي الله عنه -وكان حاكماً عادلاً- من يسمى في أيامنا هذه بلجنة تقصي الحقائق، فجاءت هذه اللجنة إلى الكوفة فأخذت تسأل الناس عن سعد في المساجد فيأتون المسجد فيقولون كيف أميركم سعد؟ فيدلي الناس بإجاباتهم، حتى دخلوا مسجدا لبني عبس الذين سكنوا الكوفة، فلما سألوهم عن سعد قام رجل فقال: أما وقد سألتنا عنه فإنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية وقال كلمة أخرى يذكر عيوباً في سعد، وكان سعد حاضراً مع اللجنة، فلما سمعه سعد وكان يعلم أنه كاذب وقد حلف، قال: اللهم إن كان عبدك هذا قد قال ما قال كذباً ورياءً فأطل عمره وعرضه للفتن.
فعاش هذا الرجل ما شاء الله له أن يعيش حتى طال عمره وأصبح رجلاً أبيض الحواجب مع بياض الشعر وسقط حاجباه على عينيه من شدة الهرم وكبر السن، وفي هذه السن التي يعقل فيها كل ذي خبل كان يقف في شوارع الكوفة وأحيائها وأسواقها يتعرض للنساء ويغمزهن ويلمزهن، وهو قد تجاوز المائة، فإذا قال له الناس: اتق الله! يقول: شيخ مفتون أصابته دعوة سعد.
فلا يجد في نفسه قدرة على أن يمتنع عن هذا.
وموضع الشاهد أن اليمين الفاجرة من أعظم ما حرمه الله ومن كبائر الذنوب، وقد دلت الآية عليها:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[آل عمران:٧٧].