ذكر الله جل وعلا هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن جعل الله بينه وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً، وهذا الحجاب يحتمل أحد معنيين: المعنى الأول: أن يكون حجاب رؤية، بمعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن لا يتمكن كفار قريش من رؤيته وإيذائه، وهذا المعنى يدل عليه ما في الأحاديث من أن أم جميل التي جاءت في القرآن بأنها حمالة الحطب حملت فهراً -يعني: حجراً كبيراً- وأرادت أن تؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يجلس بجوار أبي بكر فجاءت وهي تولول وتقول: مذمماً عصينا، ودينه قلينا، وأمره أبينا.
فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: لو تواريت عنها فإنها امرأة بذيئة اللسان، فقال صلى الله عليه وسلم:(إنها لن تراني)، وأخذ يقرأ القرآن، فجاءت أم جميل فكلمت أبا بكر وتخاطبت معه وسألته عن النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي بجوار أبي بكر وهي لا تراه.
وقد قال العلماء: إن هذا الأمر مجرب، وقد حكاه بعض الصحابة، ونقل القرطبي رحمه الله صاحب التفسير -وكان أندلسياً يسكن في غرناطة- قال: إنه خرج من أحد القصور وتبعه أهل أسبان آنذاك يريدون قتله، حتى جاء في أرض عراء فأخذ يقرأ بعض آيات القرآن، وهي آيات في الجاثية والنحل والكهف ويس كلها فيها كلمة:{أَكِنَّةً}[الإسراء:٤٦]، قال: وهم يعدون أمامي ثم يقول بعضهم لبعض -بلغتهم وهو يعرفها-: إنه شيطان يعني: اختفى.
وهذا انتشر عند العلماء في كثير من الأخبار الثابتة عنهم رحمة الله تعالى عليهم.
هذا المعنى الأول للآية.
والمعنى الثاني: أن يكون المعنى: {جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا}[الإسراء:٤٥]، أي: شيئاً على قلوبهم فلا يفقهون القرآن ولا يقبلونه.
والراجح -والله أعلم- هو المعنى الأول؛ لأن الله قال بعدها:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ}[الإسراء:٤٦]، فلا حاجة لإيراد معنيين متتابعين، فيصبح المعنى الأول أرجح، والعلم عند الله جل وعلا.
والمقصود: أن القرآن جملة مما يحفظ الله جل وعلا به عباده.