[الأمر بحج البيت]
ثم قال جل وعلا: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:٩٧].
لقد قالت اليهود لنبينا عليه الصلاة والسلام: إنك كنت تصلي إلى بيت المقدس.
ومعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي إلى بيت المقدس وهو في مكة, وصلى إلى بيت المقدس وهو في المدينة.
أما في مكة فكان عليه الصلاة والسلام يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، فيصلي في جهة بحيث تكون الكعبة أمامه وبيت المقدس وراءها، فيكون قد استقبل بيت المقدس والكعبة في آن واحد، وهذا المشهور عن ابن عباس.
وأما في المدينة فلا يمكن ذلك؛ لأن الكعبة في الجنوب وبيت المقدس في الشمال، فكان صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً كما في رواية البراء بن عازب عند البخاري وغيره.
ثم أنزل الله {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:١٤٤]، فأخذ النبي عليه الصلاة والسلام يصلي إلى الكعبة، وبقي الحال إلى يومنا هذا.
فقال اليهود: هذا أكبر دليل على أنك مضطرب في عبادتك، فبين الله جل وعلا لهم في جواب قرآني فقال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة:١٤٢]، فكل الجهات ملك لله، والله جل وعلا يختص منها ما يشاء ويتعبد عباده بما يريد، ولو تعبدهم كل شهر بجهة فهو ربهم وهم عبيده، والجهات جهاته والملك ملكه، وليس لليهود ولا لغيرهم قول ولا برهان.
فالله جل وعلا أمر نبيه أن يصلي إلى بيت المقدس ابتلاءً واختباراً وهو يعلم جل وعلا أزلاً أنه سينقلهم إلى الكعبة، ففي هذه الفترة يمحص الله جل وعلا عباده، ويبتلي خلقه ليعلم من يثبت ممن لا يثبت، كما قال الله جل وعلا: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:١٤٣] أي: هذا الأمر عظيم إلا على من يسره الله جل وعلا عليه.
والمقصود أن بيت المقدس كان معظماً والمبالغة في تعظيم الكعبة أمر الله جل وعلا في رده على اليهود بأن يكون الحج إلى الكعبة.
ولما كانت الكعبة تفضل على بيت المقدس بوجوه كثيرة، كان اختيارها مكاناً للحج أمراً لا مناص منه، فقال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:٩٧] واللام في {وَلِلَّهِ} [آل عمران:٩٧] حرف جر، ومعناها للإيجاب والإلزام.
فأوجب الله وألزم عباده بحج البيت، ولم يكتف الله بقوله {وَلِلَّهِ} [آل عمران:٩٧]، بل أتى بحرف (على)، فقال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:٩٧]، فأتى بمؤكدين: اللام و (على).
وكلاهما يدل على الإيجاب والإلزام، تقول: لفلان عندي كذا، وعلي لفلان كذا، أي: يجب علي له.