[بيان معنى قوله تعالى (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا)]
وبعد ذلك بقي المرد إلى الله، فقال الله جل وعلا: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:١٨] فلما كان قاهرا مالكا ملكا حقيقيا متصرفا قال: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:٦١].
و (إذا) في اللغة تأتي قبل التلبس بالفعل، فتقول: إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ، أي: قبل أن تقوم إلى الصلاة تتوضأ.
وكذلك: إذا وقفت بين يدي الله فكبر، و: إذا صليت فاقرأ القرآن، أي: بعد دخولك في الصلاة.
فقوله تعالى هنا: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [الأنعام:٦١] أي: حتى إذا قرب الموت وجاءت علاماته ودنت ساعته، {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:٦١].
والرسل هنا هم الملائكة، وينبغي أن تعلم أن قرب الله من خلقه نوعان: قرب بذاته، وقرب بملائكته، فالقرب بالملائكة منه قول الله جل وعلا في سورة الواقعة: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:٨٥].
فليس المراد قرب الله بذاته، إنما هو قرب الله بملائكته، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام:٦١].
والأصل أن الموكل بقبض الأرواح ملك، ولكن هذا الملك له أعوان، ومفهوم الآية لا يخلو من أحد أمرين، وبهما قال العلماء: فإما أن تكون الملائكة هي التي تخرج الروح، حتى إذا دنت من الحلقوم تركتها لملك الموت، فهو الذي يقبضها، كما قال الله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:١١].
فالله يقول في آية الأنعام: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام:٦١]، وقال في السجدة: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة:١١].
فقال بعض العلماء: إن الملائكة تقبض الروح، فتستلها من الجسم كله استلالا يختلف بين روح المؤمن وروح الكافر ليس هذا موضع بيانه، فإذا دنت الروح من الحلقوم قام ملك الموت بالنزع الأخير.
وقال بعضهم: إن ملك الموت هو الذي ينزع الروح، وقد جعل الله له العالم كالمأدبة بين يدي من يريد أن يأكل، فيأخذ منها كيفما يشاء، فإذا كثر عليه في يوم قبض الأرواح فإنه يناديها فتأتي، وكل ذلك بأمر الله، وسواء صح هذا أو لم يصح فإن العقل لا يرده والشرع لا ينافيه.
والمقصود هذا أمر الأمر الثاني أن يكون ملك الموت هو الذي يقبض الروح وحده، ولا يعينه غيره من الملائكة، ثم إذا قبضها لا تلبث في يده حتى يعطيها ملائكة آخرين، فإذا كانت روحا مؤمنة أعطاها لملائكة الرحمة، جعل الله جل وعلا أرواحكم كذلك.
وإن كانت روحا كافرة أعطاها ملائكة العذاب، وهذا الرأي الثاني هو الذي تميل النفس إليه، والله أعلم.
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:٦١].
أي: لا يضيعون في قبض الأرواح، ولا يتقدمون قبل الأجل ولا يتأخرون بعد الأجل، فحيثما أمرهم الله زمانا ومكانا يفعلون عليهم السلام.