[إشكال وجوابه]
الإشكال الثاني: وهو أننا عندما نقول: سبحانك اللهم هل أنت طلب شيئاً؟ لا، ومع ذلك سماه الله جل وعلا دعاء.
وهنا نأتي إلى مسألة تقع في رمضان سنوياً وهو أن الإمام إذا أثنى على الله يقول: اللهم اهدنا فيمن هديت، إلى أن يقول الإمام: إنه لا يعز من عاديت، ولا يذل من واليت، أو يقول: ربنا وجهك أكرم الوجوه، أو يثني على الله، فيقول من في الحرم: سبحانك، وقد قلنا مراراً: إن هذا القول لا يوجد أي دليل عليه؛ لأن الثناء على الله نوع من الدعاء، وإذا دعا الإمام فإن موقف المأموم واحد من اثنين: إما أن يسكت وإما أن يؤمن، ولا يوجد شيء في الدعاء أن يقول الإمام شيئاً ويقول المأموم: سبحانك، لا يوجد في السنة فيما نعلم ولا في القرآن دليل على أن الإمام إذا قال شيئاً يقول المأموم سبحانك، المأموم حاله مع إمامه واحد من اثنين: إما أن يؤمن وإما أن يسكت.
أما قول سبحانك، أو حقاً، أو نشهد كما يقول بعض إخواننا المصريين فهذا لا يوجد عليه دليل.
ومن أدلتنا عموماً على أن الدعاء يأتي بمعنى الثناء هذه الآية، فإن الله قال: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا} [يونس:١٠] أي: دعاؤهم فيها.
{سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس:١٠] وهذا ليس فيه طلب.
ومن السنة كثير، منها: أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند حلول الكرب بهذه الكلمات: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم)، وليس فيه طلب، فلا يلزم من الدعاء أن يكون طلباً، بل إن من الطلب أن تثني على الله حتى مع العامة، فقد تخرج من المسجد فتقابل رجلاً يشحذ، فيقول: أنا مسكين، أي: أنه يريد ريالاً، وتجد آخر يقول: أعطني ريالاً، وآخر يقول: أعطني لله ما يسمي، وآخر يقول لك: أنت رجل كريم، أنت طيب، وما معنى أنت طيب وأنت كريم؟ أي: أعطني.
فالثناء نوع من الدعاء.
ومما يدل عليه من السنة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال كما في الترمذي: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)، فلم يقل: هذا مدح وثناء على الله، وإنما سماه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء.
الثالث: ما ثبت بعدة طرق عند النسائي وعند أحمد في المسند: أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مر على عثمان بن عفان، فلما مر سلم، فلما سلم نظر إليه عثمان وحدق فيه النظر ولم يرد السلام، فذهب سعد إلى عمر رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! هل حدث في الإسلام شيء؟ قال: لا.
لماذا تسأل؟ قال: إنني مررت على عثمان فسلمت عليه فملأ عينيه مني ولم يرد السلام، فبعث عمر إلى عثمان واستدعاه وقال له: ما منعك أن ترد السلام على أخيك؟ قال: ما سلم، فحلف سعد أنه سلم وأن عثمان رآه وحلف عثمان أنه لم ير سعداً ولم يدر أن سعداً سلم عليه.
ولا يمكن أن يكون أحدهما كاذباً، فحلف الاثنان، ثم تراجع عثمان وقال: أستغفر الله وأتوب إليه؛ تذكرت الآن.
وهذا دليل أنك لا تعجل على الناس، قال: تذكرت الآن لكنني كنت أفكر في مسألة إذا تذكرتها تصيبني غشاوة.
قال: إنني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أدلكم على دعوة) وسكت فكمل سعد قال: أنا أكمل لك القصة: فقد أراد أن يقول لنا الدعوة فجاء أعرابي فشغله فمضى قبل أن يخبرنا بها، فأسرعت وراءه -أي: سعد يسرع وراء الرسول- فلما أراد أن يدخل الدار ضربت بقدمي على الأرض بقوة حتى أشعره أن أحداً وراءه، فلما ضرب سعد الأرض بقوة التفت صلى الله عليه وسلم قال: (مه)، ومه كلمة للاستفهام تقولها العرب (أبو إسحاق) وهذه كنية سعد.
قال: (نعم يا رسول الله! ثم قال: يا رسول الله! إنك أردت أن تقول لنا دعوة فجاء الأعرابي فشغلك، فقال: نعم.
دعوة أخي ذي النون: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، ما دعا بها مسلم في كرب إلا استجاب الله له).
وموضع الشاهد من القصة: أن النبي سمى قول ذي النون دعاء، وقد سماه الله من قبل في القرآن دعاء، قال الله: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى} [الأنبياء:٨٧] سماه الله نداء.
ودعوة ذي النون هذه ليس فيها طلب، وإنما فيها ثناء على الله.
يتحرر من هذا كله: أن دعوة: (سبحانك اللهم) فيها نوع من المسألة، {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس:١٠].