ثم ذكر الله جل وعلا بعد ذلك القضية التي لا مفر منها وهي قضية الموت، وأن هؤلاء الخلق أجمعين كلهم يموت، كما قال تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}[الزمر:٣٠]، وكما قال سبحانه:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}[آل عمران:١٨٥].
والله جل وعلا أذل بالموت القياصرة، والملوك، والأكاسرة، والأمراء، والأغنياء، والجبابرة، والفقراء، فلا يسلم فيما نعلم من الموت أحد؛ فقال الله جل وعلا:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}[الرحمن:٢٦ - ٢٧].
ولا ريب أن وجه ربنا تبارك وتعالى كما قلنا مراراً أعظم الوجوه وأكرمها، وقد نعت الله وجهه هنا جل وعلا بأنه ذو جلال إكرام، أي: هو جل وعلا أجل من أن يعصى وأكرم من أن يخالف، ولا يلجأ إلى ذلك إلا من غلبت عليه الضلالة، وظهرت عليه الشقاوة، وحاد عن صراط الله المستقيم، قال صلى الله عليه وسلم -فيما صح عنه-: (ألظوا -أي: الزموا- بيا ذا الجلال والإكرام) أي: في دعائكم، أكثروا من قول: يا ذا الجلال والإكرام.
ووجه الله تبارك وتعالى يثبته أهل السنة على ما يليق بجلاله وعظمته، دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة، وهو مقصد المؤمنين ومبتغى عباد الله الصالحين، قال الله عن الأخيار من عباده:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا}[الإنسان:٨ - ٩]، وقال الله جل وعلا -يحث نبيه ويؤدبه-: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[الكهف:٢٨].
ورؤية وجه الله الأكرم متحققة برحمة الله وإذنه للمؤمنين في جنة عدن كما قلنا مراراً، فالدنيا لا تطيب إلا بذكر الله ولا تطيب الآخرة إلا بعفوه، ولا تطيب الجنة إلا برؤية وجهه سبحانه، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم في الصحيح أنه قال عليه الصلاة والسلام:(إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ألم يدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟)، فيكشف الحجاب فيرون وجه ربهم تبارك وتعالى، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم هو أعظم ولا أجل من رؤية وجه الله، قال الله جل وعلا:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}[القيامة:٢٢]، أي: أحاطت بها النضرة من كل مكان، ثم ذكر سبب أنها نضرة فقال:{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:٢٣]، أي: تنظر بعينيها التي يعطيها الله التمكين آن ذاك أن ترى وجه العلي الأعلى جل جلاله، اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.