ثم قال تعالى:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ}[الأعراف:٨ - ٩]، الله جل وعلا حكم عدل، ويوم القيامة يحشر الناس على أرض بيضاء نقية لم يعص الله جل وعلا فيها قط، وليس في تلك الأرض معلم لأحد، الآن أنت تتفق مع زميلك مع جارك مع أخيك على أن تلتقي به في مكان ما فتجعل له أمارة، مستشفى، إشارة، علامة، دار، مبنى، محل تجاري، فتذهب إليه، فهذا هو المكان المعلم، وهو سبب التقائكما، لكن يوم القيامة يحشر الناس على أرض بيضاء نقية ليس فيها معلم لأحد، ليس فيها شيء بارز يجتمع عنده الناس، والناس يحشرون حفاةً عراةً غرلاً بهماً ليس معهم شيء، فإذا كنت في الدنيا مالكاً لشيء صوري تملكه بيديك، كثيابك ودابتك، فيوم القيامة يخرج الناس لا يعلمون شيئاً، يقول الله في القرآن:{يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ}[القارعة:٤]، وقال في سورة أخرى:{كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ}[القمر:٧]، ولا يستقيم الجراد مع الفراش؛ لأن الجراد منتظم، والفراش يموج بعضه في بعض، فالجمع بينهما: أن الناس عندما يخرجون يخرجون أول الأمر كالفراش لا يعرفون أين يذهبون! فإذا تقدمهم إسرافيل وهو الداعي، قال الله:{يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ}[طه:١٠٨]، انتظموا خلف إسرافيل، فانتقلوا من حالة الفراش إلى حالة الجراد، هذا كله يكون يوم القيامة، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لـ ابن عباس:(مع أنني على ما قلت عني لو أن لي ملء الأرض ذهباً لافتديت به من هول المطلع)، ومما يكون في يوم القيامة: الميزان، وأهل السنة يقولون -سلك الله بنا وبكم سبيلهم-: إنه ميزان حقيقي له كفتان وله لسان، والله جل وعلا يقول:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}[الأنبياء:٤٧]، ويقول هنا:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}[الأعراف:٨]، والمقصود بكلمة الحق: أنه لا جور فيه ولا ظلم ولا بخس ولا رهق، فهو ميزان حق، ويكفي أن الله جل وعلا قائم عليه، فهو تبارك وتعالى أعدل الحاكمين وأحكم العادلين.
وعلى هذا اختلف العلماء في الذي يوزن، مع اتفاقهم جملة على أنه يوجد ميزان له كفتان، لكن اختلفوا في الذي يوزن على أقوال أشهرها: القول الأول: أن الذي يوزن: العمل نفسه، والذين قالوا بهذا القول احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم:(الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان)، فموضع الشاهد: أنه قال: أن (الحمد لله) تملأ الميزان، وقال صلى الله عليه وسلم:(اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غيايتان أو غمامتان أو فرقان من طير صواف تحاج عن أصحابها) فهذا من أدلة من قال: إن الذي يوزن هو العمل.
وقال آخرون: إنما الذي يوزن: صحائف العمل، وهؤلاء احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي بسند صحيح:(إن الله سيخلص رجلاً من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق ينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر فيقول له ربه: أتنكر مما رأيت شيئاً؟ فيقول: لا يا رب! فيقول الله جل وعلا له: أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب! فيقول الله: إن لك عندنا بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فيقول: يا رب! وما تغني هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة، قال صلى الله عليه وسلم: فطاشت السجلات، ورجحت البطاقة) وفي زيادة عند الترمذي: (ولا يثقل مع اسم الله شيء).
فهذه أدلة من قال: إن الذي يوزن: صحائف العمل.
القول الثالث: إنه يوزن صاحب العمل، وهؤلاء احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين:(يؤتى بالرجل السمين يوم القيامة -المقصود: الكافر- فلا يزن عند الله جناح بعوضة، ثم قرأ عليه الصلاة والسلام {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}[الكهف:١٠٥]).
هذه أحد أدلة من قال: إن الذي يوزن: صاحب العمل، واحتجوا كذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضحك الصحابة من رجل عبد الله بن مسعود قال صلى الله عليه وسلم:(أتعجبون من دقة ساقيه، فلهما أثقل في الميزان من جبل أحد) أي: رجلا عبد الله بن مسعود أثقل في الميزان من جبل أحد.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى جمعاً بين الأدلة: ولا يبعد أن يوزن هذا تارة وهذا تارة وهذا تارة، والأظهر -والله تعالى أعلم- أنه يوزن العمل وصاحبه وصحائف الأعمال جمعاً بين الأحاديث، وجمعاً بين الآثار، وهذا هو الذي تستقيم به الآيات والله تعالى أعلم.
قال تعالى:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:٨]، والذي يعنينا هنا كخطاب قرآني: أن يعنى الإنسان بأعماله الصالحة، وأن يسعى فيما يثقل به الميزان، ومن أعظم ما يثقل به الميزان: حسن الخلق الذي تتعامل به مع الناس، قال عليه الصلاة والسلام:(الدين المعاملة)، ولم يكن صلوات الله وسلامه عليه فظاً ولا غليظاً في خطابه، فليس الدين مجرد ركعات تؤدى في المساجد، وإن كانت الصلاة في الذروة الأعلى من الدين، ولكن الدين جملة معاملة، مع إخوانك المؤمنين، مع والديك، مع أبنائك، مع زوجاتك، مع جيرانك، مع عامة المسلمين، تحب لهم ما تحب لنفسك، تؤثرهم على نفسك، تقبل اعتذارهم، وتقيل عثراتهم، وتقدم الصورة المثلى لما أمر الله به في كتابه، وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، كما سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:(كان خلقه القرآن)، أي: أنه يطبق القرآن صلوات الله وسلامه عليه، ومن الخطأ العظيم الذي نقع فيه أن نعتقد أن اتصالنا بالدين وقف على أشهر معينة كرمضان، أو أماكن معينة كالمساجد، وإنما يعبد الله جل وعلا بكل لسان وفي كل مكان، وأخوة الإسلام تفرض علينا مطالب شتى في تعاملنا نكون بها -إن شاء الله- عباداً لله إخوانا، كما أمر نبينا صلى الله عليه وسلم.