للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر)]

ثم قال الله جل وعلا: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام:٦٣ - ٦٤].

ما زال السياق يبين أن السورة مكية، والمقصود منها في المقام الأول إثبات توحيد الإلهية، ولكن إثبات توحيد الألهية، لا يقوم إلا إذا ثبت توحيد الربوبية.

وقلنا إن هنا أسلوبين: أسلوب تقرير وأسلوب تلقين.

وبيان ذلك أن الله جل وعلا يخاطب أهل الإشراك الذين يشركون مع الله بأرض الواقع، ويقول لهم جل وعلا: إنكم تسافرون في البر وتسافرون في البحر، ويصيبكم من المشاق والكوارث والمصائب ما يجعلكم -وأنتم مشركون في حال الرخاء- توحدون الله، ولا تسألون معه غيره، كما أخبر الله جل وعلا في عدة سور بأنهم يلجئون إلى ربهم وحده دون سواه، كقوله تعالى: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس:٢٢].

والله تبارك وتعالى يبتلي عباده، ويدلل جل وعلا في خلقه المنثور وكتابه المسطور في الأرض على أنه الرب الأوحد، والمالك الذي لا يقدر على النفع ولا على الضر إلا هو، فلا يكشف بلوى ولا يدفع ضرا إلا هو، ولا يعطي عطاء ولا يمنح رحمة إلا هو.

يقول تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام:٦٣].

وليس المقصود عين الظلمة، وإنما المقصود ما في البر والبحر من مشاق، ومن أمور تصيب الرجل والمرأة والجماعة والفرد على السواء، فإذا أصابهم الأمر وتيقنوا بالهلاك وعظم عليهم الأمر، واشتد عليهم الكرب، علموا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، فلجئوا إلى الله جل وعلا مخلصين، يتضرعون بالدعاء سرا وإعلانا، أفرادا وجماعات، خفية وتضرعا، فإذا نجاهم الله واستجاب دعاءهم، ونقلهم من حال الخوف إلى حال الأمن، ومن حال الضراء إلى حال السراء، نسوا -عياذاً بالله- كل ذلك الأمر، ورجعوا إلى شركهم، قال الله: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:١٢].

وهذا أمر يتحقق في القريب والبعيد في الزمن الماضي وفي الزمن الحاضر وفي الزمن المستقبل، فكم من تاجر خاف على تجارته، وأيقن بغرقها، أو بتسلط غيره عليها، أو أيقن بالخسران، ففزع إلى الله في ظلمات الليل يسأل الله ويدعوه، فلما نجى الله له تجارته وأنعم عليه ورزقه، أخذ تلك الأموال التي اكتسبها فأنفقها في غير طاعة الله، وربما سافر بها سفر معصية، وهذه مرحلة أدنى، والمرحلة التي عناها الله في هذه السورة هي أن أهل الإشراك يرون الموت عيانا، فيفزعون إلى الله بقلوبهم وجوارحهم وألسنتهم، ويصرون على الدعاء ويلحون، ثم إن الله لعظمته وحلمه وكمال رحمته ينعم عليهم وينجيهم، فإذا شعروا بالأمان والرخاء رجعوا إلى أصنامهم وأوثانهم يعبدونها ويسألونها من دون الله، لكي تعلم أنه لا شيء أعظم من أن تشرك مع الله جل وعلا غيره، وأن يكون قلبك الذي فطره الله وخلقه وسواه وجبله على التوحيد وعلى إخلاص العبادة له قد اتجه إلى غير الله، وأن يلهج لسانك لأي فرد، ملكا أو أميرا أو سلطانا أو عالما أو داعية أو والدا أو ولدا أو زوجة أو ابنا أو محبا تحبه فتجعله مقدما على حبك لله جل وعلا.

ومن أراد ما عند الله من النعيم، وخاف ما عند الله من الجحيم لم يقدم على ذات الله أحدا كائنا من كان، لا والدا ولا ولدا ولا أما ولا زوجة ولا أحداً كائنا من كان، ولا يتعلق قلبه بممثل ولا بلاعب، ولا بمعلم ولا بطالب، وإنما يجعل فؤاده وقلبه للرب تبارك وتعالى، فهذا هو التوحيد الذي بعث الله من أجله الرسل، وأنزل الله من أجله الكتب، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم من أجله الجهاد.

وكلما نقص حظ الله منك نقص حظك من الله، وكلما ابتعدت عن الله في توحيده وذكره وإجلاله ومحبته: كنت من رحمة الله أبعد، وإلى عذابه أدنى.

<<  <  ج: ص:  >  >>