للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تأملات في قول الله تعالى: (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم)]

قال سبحانه: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:٧١]، وهناك وقفة علميه ووقفه إيمانية مع هذه الآية.

اختلف العلماء رحمهم الله في المقصود بقوله جل وعلا: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:٧١]، أما اليوم فهو يوم القيامة قطعاً، والداعي هو الله.

{بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:٧١]، قال العلماء: فيها ثلاثة أقوال شهيرة، وقول غير شهير، لكن القائل به عالم كبير، وسنبين هذا تفصيلاً.

قالوا: إن المقصود بكلمة إمام: الكتاب، ثم إن القائلين بأن المقصود بكلمة إمام الكتاب انقسموا إلى قسمين: قسم يقول: إن المقصود الكتاب الذي أنزل على الأمة التي يتبعها ذلك الشخص، والمعنى: ندعو: يا أهل القرآن، يا أهل التوراة، يا أهل الإنجيل، يا أهل الزبور.

وقال آخرون: إن المقصود كتاب الأعمال، وهؤلاء حجتهم قول الله جل وعلا: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:١٢]، فسمى الله الكتاب إماماًً وهذا عليه أكثر العلماء؛ هذا القول الأول.

الفريق الثاني قالوا: (بإمامهم) أي: بنبيهم، فيقال: يا أتباع موسى، يا أتباع إبراهيم، يا أتباع محمد، يا أتباع يوسف، يا أتباع يعقوب، ويؤيده قول الله جل وعلا في أهل الإشراك: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:٤١].

القول الثالث: أن الإمام هي الأعمال أنفسها، فينادى كل إنسان بعمله، وأكثر العلماء يدور قولهم في هذا الفلك.

وقال بعض العلماء: إن المقصود بإمامهم أي: بأمهاتهم، والمعنى: أن الإنسان ينسب يوم القيامة إلى أمه ولا ينسب إلى أبيه، ثم قالوا: يكون هذا لحكم: منها: أن فيها تكرمة لعيسى بن مريم.

ومنها: أن فيها ستراً على أولاد الإثم.

وهذا القول منسوب إلى محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه ورحمه، وهو أحد سادات التابعين، وأصله يهودي من بني قريظة، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة لم يقتل من لم ينبت من الغلمان، وهذا أبوه كعب كان ممن لم ينبت يوم قريظة فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فكبر وأسلم وتزوج وأنجب محمداً هذا، فأصبح من سادات التابعين ومن أئمة التفسير، وكان جليل القدر عند الناس، وممن يغلب على الظن آنذاك أنه كان مجاب الدعوة، وقد حصل له ذات مرة مال كثير، فقال له أقرانه: ادخره لولدك، قال: إنما أدخره لنفسي عند ربي، وأدخر ربي لولدي، فادخر الله لولده بالعمل الصالح، ولم يدخر المال للولد.

ولا يمكن أن يقدم الأب لأبنائه عطية أعظم من العمل الصالح، قال الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:٢١]، إن الرجل إذا مات على خير فأول من يتعزى بموته أبناؤه، فإذا كان يوم القيامة وأدركه الأبناء على خير جمع الله جل وعلا بين الآباء والأبناء في جنات النعيم.

هذا هو محمد بن كعب القرظي رحمه الله صاحب القول، وأنا تعمدت أن أذكر سيرته حتى لا ترد القول وأنت تجهل قائله، صحيح أن هذا القول فيه نظر، حتى قال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان: هذا قول باطل.

والذين قالوا: إنه قول باطل حجتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح مرفوعاً عن ابن عمر: (يقال يوم القيامة: هذه غدرة فلان بن فلان)، ونحن نقول والعلم عند الله: إن قول القرطبي أيسر أن يقال فيه نظر، أما قول الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه على جلالة قدرة وفضله وعلمه أنه قول باطل كلمة فيها شيء من الصعوبة، وإن كان الشيخ رحمه الله لا يقصد القدح في القائل وإنما يقصد القول، ولذلك قال: هذا قول باطل ولم يتعرض الشنقيطي رحمه الله للقائل، لكن نقول: لو قال فيه نظر تكون أرق، والعلم عند الرب تبارك وتعالى، هذه الوقفة العلمية.

أما الوقفة الإيمانية: فإن يوم القيامة يوم جليل القدر عظيم الخطب تعرض فيه الصحائف على العباد، وقد جاءت به أحاديث كثر يشيب لها الغلمان، والمقصود: أن أي عمل كان منك في ليل أو نهار، في ظلمة أو ضياء، فهو مدون عليك، ويوم القيامة كما أخبر الله -ولا يجهل هذا أحد من المؤمنين- يعطى الإنسان صحيفة عمله فيرى ذنوبه كلها، إلا أن الكافر يراها كلها فيقول: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:٤٩].

أما المؤمن فإن الله جل وعلا يستره ثم يعرض عليه كتابه فيريه صغائر الذنوب، ويخفي عنه كبارها حتى يقرره على الصغائر فلا يردها ويعترف بها واحداً واحداً، وهذا حديث صحيح، فيقول في آخر الأمر عندما يرى أن الله لا يعرض عليه الكبار: يا رب قد بقيت ذنوب لا أراها هنا! فيقول الله جل وعلا: إنني قد سترتها عليك في الدنيا وإنني أغفرها لك في الآخرة.

وهذا محمول والعلم عند الله على التائبين، فمن تاب تاب الله جل وعلا عليه، والله جل وعلا أكرم وأرحم وأعظم وأجل وأغنى من أن يتوب على مؤمن في الدنيا من ذنب أياً كان ثم يوبخه عليه يوم القيامة، هذا لا يقع من كرام الملوك والسلاطين والأمراء، فكيف يقع من أرحم الراحمين جل جلاله.

<<  <  ج: ص:  >  >>