يقول الله:{وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ}[الرعد:١٣]، يقول المفسرون: إن من أسباب نزول هذه الآية: أن رجلين عامريين يقال لأحدهما: عامر بن الطفيل ويقال للآخر: أربد بن ربيعة قدما على النبي صلى الله عليه وسلم، وعامر هذا رغم أن في إحدى عينيه داء إلا أنه كان من أجمل العرب، وكان رجلاً مطاعاً مسموع الكلمة، على عادة العرب آنذاك في أنها تمجد بعض رؤسائها فيسمعون له، فكان مسموع الكلمة معظماً في قومه، لا يكاد يعصيه أحد، فدخل المدينة مع أربد هذا وهو ابن عمه، فكلاهما من ربيعة وكلاهما عامريين، وأربد أخو لبيد بن ربيعة الشاعر المعروف، فلما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم استشرف الناس، فقاموا ينظرون جمال عامر هذا، رغم أنه -كما قلت-: في إحدى عينيه داء، ثم قالوا: يا رسول الله! هذا عامر قال: اتركوه إن كان فيه خيراً يهده الله، فأخذ يجادل النبي صلى الله عليه وسلم ويأخذ ويعطي معه، ثم قال: إنني أتبعك على أن تجعل هذا الأمر لي من بعدك، فقال صلى الله عليه وسلم:(إن الأمر لله يضعه حيث يشاء)، يتوقاه، فقال: فليكن لي الوبر ولك المدر، يعني: لي البادية ولك الحاضرة، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم قال: فما لي إذاً؟ قال:(لك أعنة الخيل تجاهد بها في سبيل الله، فقال عامر: وهل أعنة الخيل اليوم إلا لي؟)، يتكلم عن كبره، وسماع الناس وطاعتهم له، ثم قال: والله لأملأنها عليك يعني: المدينة خيلاً جرداً، ومعنى: فتياناً مرداً، أي: شباباً يسمعون كلامي ويتبعوني، ومعنى: خيلاً جرداً، أي: ليس عليها سرج معدة للقتال، فقال صلى الله عليه وسلم:(يأبى عليك ذلك الله وأبناء قيلة)، وأبناء قيلة هم الأوس والخزرج، ثم خرج، وكأنه مع صاحبه تآمرا على النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا عليهما صلوات الله وسلامه عليه، فأما أربد فأصابته الصاعقة فأحرقته وأهلكته إلى جهنم وبئس المصير، وأما عامر فخرج وهو يتوعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان فيه أنفة، على ما كان في بعض العرب آنذاك، حتى أصابته غدة في رقبته -يعني: ورم- فتأذى منها؛ لأنها أصبحت في نظره غدة كغدة البعير، فدخل على امرأة فإذا هي امرأة من بني سلول، وكانت قبيلة تزدريها العرب، فلما دخل دارها يريد أن تسقيه في سفره شعر بالموت، فقال -وهو الآن في الموت-: غدة كغدة البعير، وموت في بيت سلولية يعني: ما يكفيني في مرض مثل البعير وأموت عند واحدة سلولية، وهو يعلم أنه سيموت ذلك الوقت، حتى لو جلس عند المرأة تمرضه وتسقيه، فخرج ثم أخذ فرسه ونام على ظهره، حتى إذا مات يموت على الفرس، لا في بيت امرأة من بني سلول، وهذا من الأنفة والحمية التي كانت موجودة، فمات كما أراد الله وأراد، أي: مات على ظهر فرسه وهلك.
ثم إن قوله أصبح مثلاً بعد ذلك لمن تكالبت الأمور عليه، فيقال: غدة كغدة البعير وموت في بيت امرأة سلولية.
فالمراد: أنه هلك الاثنان.
وموضع الشاهد من إيراد هذه الحادثة: أن العلماء أو بعض المفسرين يقولون: إن قول الله جل وعلا: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ}[الرعد:١٣]، نزلت في هذا الأمر، فإن كان الأمر كما قالوا فتصبح هذه الآية مدنية؛ لأننا قلنا: إنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لأملأنها عليك أي: المدينة، خيلاً جرداً وفتياناً مرداً، وهذا لا يقع في مكة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له عصبة تحميه في مكة كما هو ظاهر، والمقصود هذا ما يقوله بعض العلماء بسب نزول الآية.
والذي يعنينا: أن الرب تبارك وتعالى أصلاً لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، لكن بعض القتلى من الكفار إنما قتلوا وهلكوا بسبب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم عليهم.
إذاً: فمعنى قوله تعالى: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ}[الرعد:١٣]، أي: مع قدرته هذه التي لا يعجزها شيء فما زال بعض خلقه يجادل في الرب تبارك وتعالى ويعاند، إما في توحيده أو في قدرته أو في كمال جبروته أو رحمته، أو في غير ذلك من أسماء الله وصفاته.