قال جل وعلا:{وَعِيسَى وَأَيُّوبَ}[النساء:١٦٣] وأيوب من ذرية يعقوب، أي من بني إسرائيل، وقد جعله الله جل وعلا قدوة ومثالاً وموعظة للصابرين، وهو عبد صالح ونبي مرسل بنص القرآن كما في هذه الآية.
فهذا النبي ابتلاه الله جل وعلا بعد أن كان حسن الخلقة بمرض في الظاهر والباطن، ومكث في المرض عليه الصلاة والسلام ثمانية عشر عاماً هو صابر محتسب، حتى كان ذات يوم فقد أبناءه، وفي هذه الفترة فقد بعض أهله، وتخلى الناس عنه، ولم يبق له إلا صاحبان وزوجته، وكانت بارة به، فغضب عليها مرة فحلف بالله أن يضربها -إن شفاه الله- مائة جلدة، والإنسان مع المرض يحدث منه أشياء عاجلة.
فبقي له صاحبان فخرجا من عنده ذات يوم وأخذا يتحدثان فيه، كما رواه أبو يعلى والحاكم في مستدركه بسند صحيح، وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، فخرجا من عنده ثم أخذا يتحدثان عنه، فقال أحدهما للآخر: ألا ترى أن أيوب قد أذنب ذنباً عظيماً؟! وإلا فكيف يمكث ثمانية عشر عاماً ولم يشفه الله؟! لتعرف أن الناس في تقبلها للآخرين يبقى تصورها ضيقاً، والأمور مردها إلى الله، ولا يمكن أن يعطى إنسان العلم كله.
فهذا صاحبان حميمان ومع ذلك يقولان عنه هذا القول وهو نبي مرسل، فلما رجعا إليه ما صبرا، فأخبراه فقالا: إنا تحدثنا في شأنك وقلنا: إنك أذنبت ذنباً عظيماً، وإلا فإنه لا يعقل أن تمكث في البلاء ثمانية عشر عاماً ولا يشفيك الله.
فقال عليه السلام: لا أدري ما تقولان، إلا أنني أمر على الرجلين يتنازعان فيحلف الاثنان بالله، فأعلم أن أحدهما كاذب؛ لأنه لا يعقل أن يصدق الاثنان وهما متنازعان، فأذهب إلى بيتي فأكفِّر عن أحدهما كراهية أن يذكر الله إلا بحق، فخرجا من عنده.
وكان إذا أراد أن يقضي حاجته تذهب معه زوجته، فأخذته مرة ليقضي الحاجة وأوصلته إلى منتهى المكان الذي يريد أن يقضي فيه الحاجة وتركته، ثم انتظرته كالعادة، وفي الطريق أصابه ما أصابه من الهم، فسأل الله جل وعلا، كما قال الله:{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[الأنبياء:٨٣] وفي آية (ص){أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}[ص:٤١] ففجر الله من تحته عيناً وقال له: اشرب واغتسل، كما قال تعالى:{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ}[ص:٤٢] فركض {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}[ص:٤٢] فشرب فبرئ باطنه، وكل وجع داخلي انتهى، واغتسل فبرئ ظاهره، فأصبح تام الخلقة حسن الوجه، فرجع معافى إلى زوجته، ولكنها لم تعرفه، فقالت: يا فلان! أمر بك هذا النبي المبتلى، فوالله إنه عندما كان غير مريض كان من أشبه الناس بك! فقال لها: أنا نبي الله أيوب، ورجع معها صلوات الله وسلامه عليه.
فمكثه ثمانية عشر عاماً من أعظم وأجل أنواع الصبر، ولذلك لما نعته الله جل وعلا في القرآن قال:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}[ص:٤٤] قال العلماء والربانيون: إن {نِعْمَ}[ص:٤٤] ثناء من الله ليس بالأمر الهين، فلا يقول الرب الجليل جل جلاله عن أحد عباده:(نعم العبد) إلا لعلم الله بسريرة ذلك العبد وأنه أهل لهذا الثناء والمدح الإلهي، وقد من الله على أيوب عليه الصلاة والسلام بهذا العطاء، وزيادة في الخير له كان له أندران -أي: بيادر كبيرة- فيها قمح وشعير، فجاءت سحابتان، فأفرغت إحداهما على مكان القمح ذهباً، وأفرغت الأخرى على مكان الشعير فضة فضلاً من الله جل وعلا عليه وإكراماً لصبره صلوات الله وسلامه عليه.
ومن مات من ذريته وأولاده وأهله أحياهم الله جل وعلا إكراماً له، فالله إذا أعطى لا يسأله أحد عما يفعل، قال سبحانه:{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا}[الأنبياء:٨٣ - ٨٤] فهذه لأيوب {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}[الأنبياء:٨٤] أي: لمن صنع في صبره صنيع أيوب.