[من أحكام اللعن]
قال الله عن فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [هود:٩٨ - ٩٩]، اللعنة -أعاذنا الله منها-: الطرد والإبعاد من رحمة الله.
وسوف نتكلم علمياً وفقهياً وأصولياً حول كلمة اللعنة، وأمرها في الكتاب والسنة لاشتهارها بين الناس اليوم.
اللعنة قلنا: هي الطرد والإبعاد من رحمة الله.
ولها حالات: الحالة الأولى: لعن المسلم، فهذا باتفاق العلماء لا يجوز لأحد أن يلعنه.
الحالة الثانية: لعن الأوصاف العامة، وهذا جائز بالاتفاق، مثل أن تقول: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:١٨]، {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:٨٩]، {فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:٦١]، هذا يسمى لعن ذوي الأوصاف العامة وهو جائز بالاتفاق.
الحالة الثالثة: لعن الأوصاف الخاصة، تقول: لعن الله آكلي الربا، لعن الله السراق، لعن الله من يلعن والديه، فهذا جائز جاءت به السنة.
الحالة الرابعة: لعن الكافر الذي ثبت أنه مات على الكفر، فهذا جائز، كلعن أبي جهل ولعن فرعون.
الحالة الخامسة: لعن الكافر الذي لم يتحقق موته على الكفر، فهذا ينظر فيه، فإن كان غالب الظن أنه مات على الكفر فيلعن وتركه أولى، وإن كان لا يعلم أنه مات على الكفر أو مات على الإيمان، فإنا نتوقف في لعنه.
فالكافر الذي لا يوجد دليل على أنه أسلم، ولا توجد قرينة على إسلامه يلعن إذا مات على الكفر، لكن من كان هناك قرائن أو شبهات على أنه أسلم وتوقف الناس فيه فالأصل أن لا يلعن أو يتوقف عن لعنه احتياطاً.
الحالة السادسة: لعن الكافر المعين الحي، مثل لعن شارون فهذا لا يجوز، فالله جل وعلا يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة:١٦١]، فجاء الله بقيد وهو {وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} [البقرة:١٦١]، فمن لعن كافراً حياً خالف العمل بهذا القيد، وهذا قول جماهير العلماء.
ونقل عن أبي بكر ابن العربي المفسر المعروف في كتابه (أحكام القرآن) القول: بأنه يجوز لعن الكافر الحي المعين، فيجوز لعن شارون على قول أبي بكر ابن العربي، لكن الأدلة التي قالها غير صحيحة، فقد أتى بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن عمرو بن العاص أيام كفره، لكن الحديث ضعيف جداً، ولم يقل أحد بصحته، ولذلك قال (وروي)، وكلمة (روي) يؤتى بها لصيغة التمريض، ويؤتى بها لضعف الحديث، هو أراد أن يفر منه.
وهناك أمور لا يقتدى بالأنبياء فيها، فالنبي قد يعرف حال الملعون عن طريق معين لا يعرفه الإنسان العادي.
فنقول: إن لعن الكافر المعين في قول أكثر أهل العلم لا يجوز إلا إذا مات على الكفر؛ لأن الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة:١٦١].
وما دام أنه لا يجوز لعن الكافر المعين، فمن باب أولى لا يجوز لعن المسلم العاصي المعين.
الجهة الثانية من الكلام حول اللعنة: أن المؤمن ينبغي عليه أن يفر من اللعن قدر الإمكان، فلا يعود نفسه على اللعن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في حديث أبي الدرداء وهو صحيح-: (إن العبد إذا لعن تصعد اللعنة إلى السماء، تسد أمامها أبواب السماء ثم تعاد إلى الأرض فلا تجد لها مساراً فتلتفت يميناً وشمالاً -كما قال صلى الله عليه وسلم- ثم تذهب إلى من لعن، فإن كان أهلاً ولا رجعت للذي لعن)، ويؤيده كذلك ما في سنن أبي داود وهو حديث صحيح: أن عبد الله بن مسعود الصحابي المعروف كان صديقاً لرجل يقال له أبو عمير، فذهب عبد الله بن مسعود لزيارة أبي عمير فلم يجده فأدخلته أم عمير زوجة أبي عمير الدار، فدخل وجلس في المجلس.
فبينما هو ينتظر صاحبه سمع امرأة أبي عمير تقول بعد أن بعثت جارية: لعنها الله أبطأت عليّ فخرج ابن مسعود من البيت وجلس خارج البيت، فجاء أبو عمير فوجد ابن مسعود خارج الدار، فقال: ما منعك أن تدخل بيت أخيك، قال: قد دخلت ولكني سمعت امرأتك تلعن جارية لها أبطأت عليها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن اللعنة إذا خرجت من فيّ -يعني: فم- قائلها تذهب إلى من لعن، فإن كان لذلك أهلاً وإلا رجعت إلى من لعن، فكرهت أن أكون بسبيل اللعنة) والمعنى: كرهت أن أكون في طريق اللعنة فخرجت.
فاللعن لا يجوز أبداً أن يكثر الإنسان منه.
ثبت أن عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي المعروف، استضاف أم الدرداء رضي الله عنها وأرضاها فسمعته في الليل وهو قي قصره يلعن، فلما أصبحت قالت له: إنني سمعتك تلعن بعض خدمك، وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يكون اللعانون يوم القيامة شهداء ولا شفعاء)، ومما يدل على أن كثرة اللعن من أسباب دخول النار.
أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يخطب في عيد فطر أو أضحى -كما في حديث أبي سعيد - ثم قال عليه الصلاة والسلام -يوجه كلامه إلى النساء-: (معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة جزلة فقالت: بِمَ يا رسول الله؟ قال: إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير)، تكفرن العشير: يعني: تنكرن حسنات الزوج عليكن.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم: (إنكن تكثرن اللعن)، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الإكثار من اللعن سبب من أسباب دخول النار.
فالعاقل ينبغي عليه أن لا يلعن شيئاً لا دابة ولا غيرها.
إن البعض يكثر من لعن أبنائه، وهذه أشد إثماً، فعلى الإنسان أن يحفظ لسانه فلا يلعن إلا اللعن العام إذا اضطر إليه، كأن يقول: لعنة الله على الظالمين لعنة الله على الكافرين.
كذلك من قواعد العلم أن الإنسان لا يأتي مثلاً إلى شخص يعمل في بنك ربوي فيحكم على هذا الرجل بأنه ملعون، فهذا لا يجوز، وإنما تقول: لعن الله آكل الربا، فقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم آكل الربا فقال: (لعن الله آكل الربا)، لكن لا تحكم على شخص بعينه أنه ملعون، فهذا لا يجوز شرعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله شارب الخمر، فجيء له بصحابي قد شرب الخمر، فلما لعن، قال: لا تلعنوه، فإني ما علمته إلا محباً لله ورسوله)، مع أنه عليه الصلاة والسلام قال: (لعن الله شارب الخمر).
ووقوع اللعنة على آكل الربا وعلى السراق وعلى الزناة وعلى أمثالهم ممن لعن الله أو لعن رسوله، ليس كوقوعها على أهل الكفر، وما ذكر ملعون في القرآن أكثر من فرعون عياذاً بالله، قال الله جل وعلا: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص:٤٢].
نعوذ بالله جل وعلا من موارد لعنه.