[بيان معنى قوله تعالى (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين)]
قال تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:٩٧]، للعلماء في هذه الجملة ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن الآية على ظاهرها، والمعنى: أن من لم يحج وهو قادر فهو كافر لظاهر الآية، وهذا مذهب الحسن البصري رحمه الله، ووافقه عليه بعض العلماء.
الوجه الثاني: أن من أنكر فريضة الحج فهو كافر، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنه، وعليه جماهير العلماء.
الوجه الثالث: أن الآية جرت مجرى التغليظ والتهديد والوعيد والزجر في بيان أهمية الحج إلى بيت الله جل وعلا، وأن تاركه كالكافر، وهذا القول اختاره بعض العلماء، وهو الذي إليه نميل، والله أعلم, فالآية تجري مجرى التهديد والتغليظ والوعيد، وهذا له قرائن في كتاب الله وفي السنة.
أما له قرائنه في القرآن فإن الله جل وعلا قال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:٩٣] مع اتفاقنا على أن هذه الآية تحمل على أنها مبالغة في التهديد، وإلا فإن من قتل نفساً ومات على التوحيد لا يخلد في النار.
ومن السنة قوله النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: (عبد بادرني بنفسه، حرمت عليه الجنة، وقاتل نفسه في النار) وما إلى ذلك مما جاء في قصة الانتحار.
والصحيح أن من مات منتحراً ولم يأت بناقض شرعي، ومات على (لا إله إلا الله) فإنه لا يخلد في النار، وتحمل هذه الأحاديث وغيرها على المبالغة في التهديد والزجر والوعيد.
فقاتل نفسه لا يخلد في النار، وإنما يسن لإمام المسلمين أو نائبه ألا يصلي عليه، فقد روى مسلم في الصحيح أن رجلاً من الصحابة اشتد عليه مرض ما، فعمد إلى عروقه فقطعها فسال الدم، فلما سال الدم أخذ ينزف حتى مات، فرآه ابن عم له في المنام وعليه ثياب بيض وقد غلت يداه، فقال: ما صنع بك ربك؟ قال: عفا عني، قال: فما بال يديك؟ قال: إن الله قال لي: إننا لا نصلح منك ما أفسدته من نفسك؛ لأنه قطع يديه.
ولما استيقظ قص الرؤيا على النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (اللهم وليديه فاغفر، اللهم وليديه فاغفر، اللهم وليديه فاغفر) قالها ثلاثا.
قال النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم وغيره من العلماء: في ذلك دليل واضح على أن قاتل نفسه لا يخلد في النار.
ولكن هذا يخاطب به طلبة العلم فقط، ولا يقال للعامة حتى لا يستهينوا بقتل غيرهم ولا بقتل أنفسهم، وطالب العلم ينبغي له أن يفرق بين الخطاب إلى العامة والخطاب إلى طلبة العلم.