فهذه من أعظم آيات الربوبية في القرآن، يخبر الله جل وعلا فيها عن سعة علمه، وعظيم إحاطته بخلقه، وأن ما تراه العيون، وما لا تراه، ومثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وورق الأشجار على كثرته واتساعه وعظيم عدده، لا يعلمه إلا الرب تبارك وتعالى، فكل تلك الأمور أينما كانت، وأينما غابت عن عيوننا، الغيب وغياهب البحار، ومفاوز البر، وكل ما يقع فيه، وما يكون في ليل أو في نهار أو في أي مكان قد اطلع، الله جل وعلا عليه وقد علمه وكتبه وأراده وشاءه، قال الله تعالى:{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}[الأنعام:٥٩] ثم تتناقلها الرياح ميمنة وميسرة، وشمالاً وجنوباً، ثم تهوي، كل ذلك يعلمه الله جل وعلا، لا يخفى عليه من خلقه خافية أينما كانت، قال تعالى عن لقمان:{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}[لقمان:١٦].
والإنسان -ستره الظلام أو كان في الضوء- قد اطلع الله جل وعلا عليه، سواء أسر في نفسه أم أعلن، فالله جل وعلا يعلم ذلك كله، فالقلوب له مفضية، والسر عنده علانية، ولا تخفى عليه من خلقه خافية.
يقول تعالى:{وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ}[الأنعام:٥٩] أي: ولا حبة تسقط {فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ}[الأنعام:٥٩].
وقوله تعالى:{وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ}[الأنعام:٥٩] أسلوب قرآني يسمى عطف عام على خاص؛ لأن كل ما سلف لا يخلو من كونه رطباً أو يابساً، وحياً أو ميتاً.
قال تعالى:{وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ}[الأنعام:٥٩] من كل ذلك {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام:٥٩] أي: في اللوح المحفوظ، فالله أول ما خلق القلم، قال له: اكتب، فقال: ما أكتب؟ فقال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.
فما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، جفت الأقلام وطويت الصحف، فأنت تسعى وراء رزق سيأتي إليك، أو تطلب شيئا لن يأتيك أبدا.
فالعاقل من أحسن صلته بربه جل وعلا، وأهل والفضل العلم يقولون: من خسر مع الله جل وعلا فماذا ربح؟ ومن ربح مع الله تبارك وتعالى فماذا خسر؟ فمن ربح مع الله لم يخسر شيئا، ومن خسر مع الله لم يربح شيئا ولو أوتيت له الدنيا بحذافيرها.